نظمت مجموعة من منظمات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة، من بينها BeMagazine.org، ومركز غاندي العالمي للسلام، ولجنة العدالة الاجتماعية التابعة للكنيسة الوحدوية العالمية في تشاتانوغا، وChattanooga Standing Out، برنامجاً حقوقياً امتد ليوم كامل في مدينة تشاتانوغا بولاية تينيسي، الأربعاء 10 ديسمبر 2025، وذلك بالتعاون مع المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا. وجاءت الفعالية تزامناً مع اليوم العالمي لحقوق الإنسان، مع تسليط الضوء على ضرورة مساءلة إسرائيل عن الإبادة الجماعية في غزة، وفضح دور الدعم السياسي والعسكري الأميركي في تمكين هذه الجرائم.
افتُتح اليوم بكلمات من المشاركين والمنظمين، الذين شددوا على أن هدف اللقاء يتمثل في تعزيز شبكات التضامن مع القضية الفلسطينية، وتوسيع دوائر المقاومة، وترسيخ العمل السلمي والنشاط المجتمعي القائم على قول الحقيقة مهما كلف الأمر ونشر الوعي مجتمعيًا. ودعا المتحدثون المشاركين إلى توظيف أصواتهم ومنصاتهم الرقمية وانخراطهم المجتمعي ضمن حركة أوسع تطالب بالعدالة.
الندوة الافتتاحية: جذور الصراع ومساراته السياسية
الفعالية الأولى كانت محاضرة ألقاها الدكتور فؤاد مغربي، أستاذ العلوم السياسية المتفرغ في جامعة تينيسي في تشاتانوغا. قدّم الدكتور مغربي تحليلاً تاريخياً معمقاً للصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، واصفاً إياه بمشروع استيطاني استعماري قام على الإزاحة الممنهجة للفلسطينيين على مدى أكثر من قرن. واستحضر تجربته الشخصية حين أُجبر على مغادرة قريته عين كارم عام 1948، موضحاً كيف تجسدت سياسات التطهير العرقي في الواقع اليومي، وكيف سعت الأيديولوجيا الصهيونية إلى إنشاء كيان سياسي خالٍ من السكان الأصليين.
وأشار إلى أعمال عدد من الباحثين البارزين، من بينهم رشيد الخالدي، وإيلان بابيه، وإدوارد سعيد، مؤكداً ضرورة فهم فلسطين ليس فقط بوصفها قضية تاريخية، بل كرمز عالمي للقمع والمقاومة. واعتبر أن غزة كشفت فشل المنظومة الليبرالية العالمية أخلاقياً، وانتقائية الخطاب الغربي حول حقوق الإنسان. كما شدد على أن المقاومة الفلسطينية تتخذ أشكالاً متعددة، ثقافية واجتماعية وسياسية، مؤكداً أن الضغط الشعبي والتضامن الدولي والمقاومة المدنية تظل أدوات أساسية في مواجهة الجرائم المستمرة.
ندوة شبابية: أصوات جديدة في العمل السلمي
سلطت الجلسة الثانية الضوء على مجموعة متنوعة من المنظمين الشباب والفنانين الذين يطوّرون نماذج جديدة للمقاومة السلمية. وقدّم كل متحدث تجربته ضمن سياقات أوسع للنضال من أجل العدالة، شملت فلسطين، والعدالة المناخية، والمساواة العرقية، وحقوق الطلبة.
تحدثت لورين هيرلي من حركة Sunrise Movement Chattanooga عن الترابط بين العدالة المناخية وحقوق الإنسان، موضحة كيف يرتبط التدمير البيئي والتهجير، بما في ذلك في غزة، بأنظمة العنف الاستعماري. وأبرزت جهود المساعدات المجتمعية المحلية، مؤكدة أن العمل المناخي لا يمكن فصله عن العدالة الاجتماعية.
من جانبها، استعرضت أليسا لوني دورها في تأسيس منظمة UTC Civic Engagement، وتطرقت إلى الاحتجاجات الطلابية، والتصدي للسياسات التعليمية التمييزية، والدفاع عن برامج التنوع والإنصاف داخل الحرم الجامعي. وشرحت كيف يواجه الطلبة القمع السياسي، ويناضلون من أجل حق التصويت، وينظمون احتجاجاً على مستوى الولاية في ناشفيل لمواجهة القوانين التي تستهدف التعليم وحقوق الطلبة في ولاية تينيسي.
أما سافرون، الفنانة الشابة والمؤسسة المشاركة لمبادرة ColorCraze، فتحدثت عن النضال من خلال الفن والتعبير السياسي وإبراز أصوات المهمشين. وشددت على أن الشباب لا يمكنهم “الاكتفاء بعيش حياتهم” دون الدفاع عن الحقوق المتساوية، مشيرة إلى نضالات عالمية تشمل فلسطين والسودان، وداعية إلى كسر الصمت وعدم الاكتفاء بمواقف شكلية ضد العنصرية.
بدوره، تناول الشاعر والناشط المجتمعي كرانتزسي بورسيكو دور اللغة والفن كأدوات مقاومة، مستلهماً تجربته الشخصية وقضايا الظلم العالمي، ومؤكداً أن الفن قادر على إحداث تحول اجتماعي، ومشدداً على فكرة أن “الوجود بحد ذاته مقاومة”.
وأكد المشاركون والميسرون أن الحركات الشبابية تواجه الرقابة، وتبني المجتمعات، وتحشد عبر الفضاءات الاجتماعية والسياسية والفنية، مشددين على أن الشباب في صلب النضال من أجل حقوق الإنسان وتوسيع شبكات التضامن واستدامة المقاومة السلمية.
منتدى العدالة والمساءلة: تفكيك منظومة الإفلات من العقاب
أما الفعالية الثالثة، فكانت منتدى العدالة والمساءلة، والذي كان الجلسة الأوسع والأكثر تأثيراً في البرنامج، حيث نُظم من قبل منظمات حقوقية أميركية بالشراكة مع المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا، وجمع دبلوماسيين سابقين، ومحللين عسكريين، وعاملين في المجال الإنساني، وأطباء، وقيادات دينية، ومنظمين مجتمعيين، وخبراء سياسات، لمناقشة منظومة الإفلات من العقاب المحيطة بجرائم إسرائيل في غزة، والدور الحاسم للدعم الأميركي، والمسؤولية الدولية في تحقيق العدالة.
افتُتح المنتدى بمداخلة مسجلة لهالة هاريت، المتحدثة السابقة باسم وزارة الخارجية الأميركية، التي استقالت عام 2023 بعد رفضها ترديد نقاط رسمية تقلل من معاناة الفلسطينيين. وقدمت شهادتها رؤية نادرة من داخل مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية، كاشفة عن قمع التقارير الميدانية، ورفض مراجعة السياسات رغم تصاعد المجازر بحق المدنيين.
من ناحيته، قدّم أنطوني أغيلار، الضابط السابق في مؤسسة غزة الإنسانية، شهادة ميدانية مفصلة من داخل غزة، شرح فيها كيف جرى تحويل المساعدات الإنسانية إلى أداة ضمن الاستراتيجية العسكرية، وتصنيع المجاعة بشكل متعمد، واستهداف المدنيين عند نقاط توزيع المساعدات، ضمن نمط أوسع من القسر والتهجير والتدمير، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني واتفاقيات منع الإبادة الجماعية. وأعلن أنه يستعد للتوجه إلى لاهاي لتقديم شهادته ضمن إجراءات دولية جارية.
من جانبها، بدأت جوزفين غيلبو، المحللة السابقة في استخبارات الجيش الأميركي، كلمتها بالتحدث عن انتقالها من الخدمة العسكرية إلى المعارضة العلنية لسياسات الإدارة الأمريكية. وكشفت عن آليات الدعاية السياسية، ونفوذ اللوبيات العسكرية خاصة ”إيباك” – اللوبي الصهيوني- وتآكل الرقابة الديمقراطية التي تتيح التواطؤ الأميركي. وأشارت إلى تجربتها داخل الكونغرس، حيث تجاهل مسؤولون منتخبون أدلة موثقة على جرائم حرب، ما يعكس عمق الاختطاف المؤسسي والحاجة الملحة إلى تغيير جذري.
وتناول بسام عيسى، الناشط الحقوقي، دور الإعلام الغربي في التستر على الجرائم وخلق توازن زائف، موضحاً كيف يؤدي الانتقاء الإعلامي وإقصاء الصوت الفلسطيني وطمس السياق التاريخي إلى تمكين الإبادة الجماعية “على مرأى العالم”.
أما ميديا بنجامين، المؤسسة المشاركة لحركة CODEPINK، فقد وضعت الأزمة في سياق عقود من صفقات السلاح الأميركية وشبكات الضغط وتغير الرأي العام، مشيرة إلى مبادرات تشريعية بارزة ورفض بعض المسؤولين المنتخبين تمويل “إيباك”، ومؤكدة أن استمرار التمويل العسكري يقوض العدالة للفلسطينيين ويضر بالمساءلة الديمقراطية داخل الولايات المتحدة.
من الناحية الدينية، قدمت الحاخام لين غوتليب نقداً أخلاقياً وروحياً عميقاً للإبادة الجماعية والاستعمار الاستيطاني، ولاهوت العنف الصهيوني، مستندة إلى خبرتها الطويلة في العمل بين الأديان، ومؤكدة ضرورة تسمية الإبادة باسمها ومقاومة محاولات طمسها.
ومن قطاع العمل المجتمعي، أدانت جوديث بيدرسن-بن الإبادة الجارية في غزة بوصفها اختباراً حاسماً للضمير العالمي، مؤكدة أن الصمت تواطؤ، وأن مواجهة الإبادة تتطلب وضوحاً وشجاعة ورفضاً قاطعاً للفصل بين مصيرنا ومصير المظلومين.
كما وجّهت آمنة شاه نداءً عاجلاً للوضوح الأخلاقي والمسؤولية المدنية، مؤكدة أن كرامة الفلسطينيين وأمنهم يجب أن تكون التزاماً مركزياً لكل مجتمع، وداعية إلى بناء قوة سياسية ومواجهة السياسات التمييزية، في ظل ما وصفته بانهيار أخلاقي يتجلى في المجاعة والحرمان اليومي في غزة.
فيما شددت جنّات سعيد على أن الإبادة في غزة متجذرة في أنظمة سياسية تقرر أي الأرواح تستحق الحماية، مؤكدة أن الإفلات من العقاب يبدأ بسياسات تنزع الإنسانية، وأن المساءلة تبدأ محلياً بمواجهة القوانين الجائرة وبناء قوة مدنية حقيقية.
واختُتم المنتدى بشهادة مسجلة للدكتور مارك بيرلماتر، جرّاح العظام الأميركي، الذي عاد مؤخراً من مهمات طبية في غزة، وقدم وصفاً مفصلاً للإصابات الجماعية، واستهداف الأطفال، والحرمان المنهجي من الإمدادات الطبية، وتدمير البنية التحتية الصحية.
























