تتواصل المأساة الإنسانية في مدينة غزة وسط تصعيد عسكري غير مسبوق يشنه الاحتلال الإسرائيلي منذ ما يقرب من عامين، حيث يتعرض المدنيون العزّل لحملة تدمير ممنهجة تستهدف مساكنهم وأبنيتهم المدنية في إطار سياسة واضحة المعالم تهدف إلى تفريغ المدينة من سكانها وفرض تهجير قسري.
ففي اليوم السبت؛ قصف الطيران الحربي التابع للاحتلال برج السوسي السكني الواقع في شارع الصناعة غربي مدينة غزة، وهو مبنى مكوّن من 15 طابقاً يضم أكثر من 60 شقة سكنية، فحوّله إلى كومة من الركام. البرج كان يؤوي مئات الفلسطينيين بينهم عائلات نازحة لجأت إليه بعد أن فقدت بيوتها في مناطق أخرى من القطاع.
وقبيل القصف؛ تلقى السكان إنذارات بالإخلاء، ما دفعهم إلى الهروب على عجل، تاركين وراءهم معظم ممتلكاتهم، وشوهدت العائلات وهي تلقي ما تيسّر من أمتعة عبر النوافذ، فيما ارتفعت أصوات النساء والأطفال بالبكاء وسط القصف المتواصل. حتى ذوو الإعاقات اضطروا للفرار بصعوبة؛ إذ رُصد أحد المصابين بإعاقة حركية يحاول الابتعاد بعكازه عن مكان الاستهداف.
وتباهى وزير الحرب في حكومة الاحتلال يسرائيل كاتس علناً بتدمير المبنى، ونشر مقطعاً مصوراً للحظة انهياره وكتب معلقاً: “مستمرون”، مؤكداً أن استهداف الأبراج السكنية جزء من عملية عسكرية موسعة تحمل اسم “عربات جدعون 2” تهدف لاحتلال كامل مدينة غزة.
وعلى غرار مزاعم الاحتلال المعتادة؛ برر جيشه القصف بالقول إن المبنى كان يُستخدم “مركز مراقبة” من قبل المقاومة، في محاولة لإضفاء شرعية عسكرية على استهداف مرفق مدني بحت. إلا أن طبيعة البرج الذي يضم عشرات العائلات النازحة تعكس الحقيقة الصارخة التي تؤكد أن المدنيين هم الهدف الأساسي.
ويأتي تدمير برج السوسي بعد أقل من 24 ساعة على تدمير برج مشتهى غربي المدينة، في منطقة مكتظة بعشرات آلاف النازحين، ما أسفر عن تهجير مئات الفلسطينيين مجدداً.
ويندرج هذا التصعيد المتعمد ضد الأبراج السكنية ضمن سياق أوسع من الإبادة الجماعية التي يتعرض لها القطاع منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، والتي أودت حتى الآن بحياة أكثر من 64 ألف قتيل فلسطيني، وأدت إلى إصابة ما يزيد على 162 ألفاً، معظمهم من النساء والأطفال، إلى جانب أكثر من 9 آلاف مفقود لم يُعرف مصيرهم تحت الأنقاض. كما أدت المجاعة وانهيار البنية التحتية الصحية إلى وفاة مئات آخرين، بينهم عشرات الأطفال.
ويُظهر الواقع الميداني أن ما يجري ليس مجرد عملية عسكرية، بل عملية استئصال جماعي تستهدف البنية السكانية الفلسطينية في غزة، من خلال التدمير المنهجي للمنازل والمستشفيات والمدارس، وتجويع مئات آلاف المدنيين، وحرمانهم من مقومات الحياة، في سياسة تقوم على إفراغ الأرض من أهلها وإعادة تشكيلها بالقوة، وهو ما يرقى إلى جريمة إبادة جماعية بموجب القانون الدولي.
إن تدمير برج السوسي ليس حدثاً معزولاً، بل حلقة في سلسلة طويلة من جرائم الاحتلال، تؤكد أن المدنيين في غزة يواجهون اليوم واحدة من أعتى المذابح الجماعية في العصر الحديث، في ظل صمت دولي يرقى إلى حد التواطؤ.