أكدت المحكمة الجنائية الدولية مجدداً مذكرتي التوقيف الصادرتين بحق رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير جيشه السابق يوآف غالانت، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة، رافضة للمرة الثانية الاستئناف الذي قدّمه الاحتلال ضد قرارات التوقيف.
وقالت المحكمة في قرار من 10 صفحات، إن الاحتلال “يكرر الحجج السابقة ذاتها” المتعلقة بعدم اختصاص المحكمة، مؤكدة أنها غير ملزمة بإعادة مناقشة مسألة الاختصاص قبل تنفيذ مذكرات الاعتقال، مشيرة إلى أن إصدارها “تمّ في مسار قانوني مستقل يرتبط بمسؤولية الأفراد عن الجرائم الدولية الخطيرة، لا بوضع الدولة”.
وتأتي هذه الخطوة بعد عامين من أوسع عملية إبادة جماعية موثقة في العصر الحديث، نفذها الاحتلال في قطاع غزة منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأدت إلى مقتل أكثر من 67 ألف فلسطيني وإصابة أكثر من 170 ألفاً، معظمهم من النساء والأطفال، إلى جانب تدمير نحو 90% من البنية التحتية المدنية.
وتندرج هذه الجرائم ضمن المادة (6) من نظام روما الأساسي التي تُعرّف الإبادة الجماعية بأنها “الأفعال المرتكبة بقصد تدمير جماعة قومية أو إثنية أو دينية كلياً أو جزئياً”، وتشمل القتل الجماعي، وإحداث الأذى الجسدي والنفسي، وفرض ظروف معيشية تقود إلى الفناء، وهي الأوصاف التي انطبقت تماماً على الواقع في غزة خلال العدوان الأخير.
وكان الاحتلال قد زعم في استئنافه أن المحكمة “غير مختصة” بالنظر في الجرائم المرتكبة على الأراضي الفلسطينية، إلا أن المحكمة ردّت بأن فلسطين دولة طرف في نظام روما الأساسي منذ 2021، وبالتالي فإن اختصاصها يشمل كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، بما فيها غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية.
كما أوضحت المحكمة أن رفضها لطلب الاحتلال لا يتعلق بمسار سياسي أو تفاوضي، بل بوقائع جرائم موثقة بالأدلة الميدانية والشهادات الرسمية، مؤكدة أن مذكرات التوقيف ستبقى سارية التنفيذ “حتى استسلام المطلوبين أو تسليمهم للعدالة”.
وبحسب تقارير عبرية؛ فإن أوساطاً قانونية إسرائيلية كانت قد روجت لفكرة أن اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى في غزة قد يجمّد ملاحقات المحكمة، غير أن المحكمة الجنائية أكدت أن المذكرات تتعلق بجرائم وقعت بين أكتوبر 2023 ومايو 2024، أي قبل أي اتفاق سياسي لاحق، ولا يمكن تعليقها إلا في حال طعن الاحتلال في مقبولية الدعوى وفق المادة (19/7) من نظام روما، وهو ما لم يفعله.
وتستند مذكرات التوقيف إلى مبدأ المسؤولية القيادية الذي يحمّل القادة السياسيين والعسكريين المسؤولية عن الجرائم التي يرتكبها مرؤوسوهم إذا علموا بها أو لم يتخذوا الإجراءات اللازمة لمنعها أو معاقبة مرتكبيها. وتشمل الاتهامات الموجهة لنتنياهو وغالانت القتل العمد، واستهداف المدنيين، والتجويع كوسيلة حرب، واستخدام الحصار كأداة إبادة جماعية.
ويفتح تثبيت مذكرتي الاعتقال الباب أمام مرحلة جديدة من المساءلة الدولية، رغم محاولات بعض الدول الغربية تسييس العدالة الدولية لحماية قادة الاحتلال من المحاكمة.
ويمثل قرار المحكمة خطوة إضافية نحو كسر حصانة الإفلات من العقاب التي تمتع بها قادة الاحتلال لعقود، في وقت تتزايد فيه المطالب الحقوقية بمحاسبة جميع المسؤولين عن الجرائم المرتكبة في غزة، باعتبارها جريمة إبادة جماعية موصوفة وفق القانون الدولي.
وفي ظل الصمت الغربي وتردد بعض الحكومات في تنفيذ مذكرات التوقيف؛ تبقى المحكمة الجنائية الدولية أمام اختبار حقيقي لمدى قدرتها على تطبيق القانون الدولي على الجميع دون استثناء، بما يعيد الثقة بالعدالة الدولية ويؤكد أن دماء الفلسطينيين ليست خارج نطاق القانون.