في مشهد يختصر جوهر المأساة الإنسانية المتفاقمة في قطاع غزة؛ نقلت وكالة “الأونروا” شهادة صادمة لأحد المدنيين الناجين من بين من اضطروا للزحف على الأرض وسط إطلاق نار كثيف من جيش الاحتلال، أثناء محاولتهم الوصول إلى مركز توزيع مساعدات جنوبي قطاع غزة.
وقالت الوكالة، في منشور على منصة “إكس” إن “أناسًا جياعًا أُجبروا على الزحف على الأرض في محاولة يائسة لتأمين طعام لعائلاتهم، فقط ليجدوا أنفسهم يغامرون بحياتهم، ويغادرون خالي الوفاض”.
وطالبت الوكالة بإعادة مهمة إيصال المساعدات إلى الأمم المتحدة، بما في ذلك الأونروا، لضمان وصولها بأمان وعلى نطاق واسع إلى جميع سكان غزة.
وكشفت الشهادة التي أرفقتها “الأونروا” لرجل فلسطيني يُدعى ناجي، تفاصيل أشبه بمشاهد من حروب الإبادة الجماعية في التاريخ، حيث قال: “توجهنا إلى المركز فجراً، وانتظرنا الإشارة للتحرك وسط إطلاق نار لا يتوقف. زحفنا على الأرض لأكثر من ساعة، ثم حين توقف إطلاق النار، قفز الناس وركضوا، لكن عاد إطلاق النار وأُصيب الكثيرون. لم أشهد شيئاً كهذا من قبل”.
ومنذ 27 أيار/مايو، بدأت سلطات الاحتلال تنفيذ آلية لتوزيع مساعدات تحت ما يسمى “مؤسسة غزة الإنسانية”، خارج إشراف الأمم المتحدة، بالتنسيق مع الإدارة الأمريكية. ويقول الفلسطينيون إن هذه الآلية ليست مجرد التفاف على الهيئات الدولية، بل خطة لتهجير قسري مقنّع، تهدف إلى دفع السكان في شمال القطاع إلى الانتقال جنوباً عبر خلق مجاعة مصطنعة، ومراكز إغاثة تتحول إلى نقاط استهداف مباشر.
إن ما يحدث على الأرض لا يمكن اعتباره إخفاقًا في التنسيق أو خللًا في توزيع الإغاثة، بل هو سلوك ممنهج يقوم على استخدام الطعام كسلاح حرب، وفرض معادلة جائرة على السكان: إما الزحف وسط الرصاص من أجل حفنة دقيق، أو الموت جوعًا في ركام المنازل.
وتظهر آخر إحصائية للمكتب الإعلامي الحكومي بغزة، أن 110 مدنيين قُتلوا، وأُصيب 583 آخرون برصاص جيش الاحتلال، منذ بدء تنفيذ هذه الآلية في 27 أيار/مايو، خلال محاولاتهم الوصول إلى مراكز توزيع المساعدات في جنوب القطاع. كما لا يزال 9 أشخاص في عداد المفقودين.
إن ما يجري في غزة لا يمثل كارثة إنسانية فحسب، بل نموذجًا مكتمل الأركان لجريمة إبادة جماعية، تُرتكب عبر أدوات مركبة تشمل القتل، التهجير، والتجويع القسري كسياسة معلنة. فمنذ 18 عامًا يفرض الاحتلال حصارًا خانقًا على القطاع، غير أن الأشهر الأخيرة شهدت تحوّله من حصار اقتصادي إلى خنق شامل يشمل الماء والغذاء والدواء.
ومنذ 2 آذار/مارس الماضي، يغلق الاحتلال كافة المعابر بشكل شبه كامل، ولا يسمح سوى بدخول عشرات الشاحنات، بينما تشير التقديرات إلى أن القطاع يحتاج إلى 500 شاحنة مساعدات يوميًا كحد أدنى لتغطية الاحتياجات الأساسية.
وتسببت هذه السياسة بتشريد نحو 1.5 مليون إنسان من أصل 2.4 مليون نسمة، وتدمير مئات آلاف المساكن، وخلق ظروف مجاعة حادة أودت بحياة كثيرين، بينهم أطفال لم تتجاوز أعمارهم بضعة أشهر.
ومنذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، يشن الاحتلال حربًا شاملة على قطاع غزة خلّفت أكثر من 180 ألف قتيل وجريح، معظمهم من الأطفال والنساء، وما يزيد عن 11 ألف مفقود، في ظل تدمير ممنهج للبنية التحتية المدنية، وتهجير جماعي واسع النطاق، ومجازر متكررة في مراكز اللجوء وطوابير الخبز.
ورغم صدور أوامر من محكمة العدل الدولية تطالب بوقف الحرب، تستمر العمليات العسكرية بدعم سياسي وعسكري مباشر من الولايات المتحدة، ما يعكس عجزًا دوليًا فاضحًا عن فرض القانون الدولي الإنساني، وغيابًا مقلقًا لأي مساءلة حقيقية.
حين يُجبر المدنيون على الزحف فوق الأنقاض وتحت الرصاص من أجل كيس طحين، فذلك ليس مجرد مشهد منسياً من كارثة إنسانية، بل هو البرهان الحيّ على أننا أمام حرب إبادة تُرتكب على مرأى ومسمع العالم. ولا يحتاج هذا الواقع إلى مزيد من التقارير لتوثيقه، بل إلى ضمير عالمي حيّ يرفض أن تبقى غزة ساحة مفتوحة للموت المجاني، المحكوم بالصمت، والمعزول عن العدالة.