يواجه السودان اليوم واحدة من أكثر الأزمات الإنسانية تعقيداً في العالم، مع دخول الحرب بين الجيش و”قوات الدعم السريع” عامها الثالث، وتحول البلاد إلى ساحة مفتوحة للجوع والنزوح والانهيار الكامل لمؤسسات الدولة.
وفي إحاطة مشتركة من نيويورك؛ دعا مسؤولون أمميون إلى وقف فوري لإطلاق النار وضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى ملايين السودانيين “دون عوائق”، مؤكدين أن الوضع بلغ مستويات كارثية غير مسبوقة.
وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 15 مليون شخص جرى تهجيرهم قسراً، بين نازح داخل البلاد ولاجئ عبر الحدود، بينما يواجه الملايين خطر الجوع والموت في ظل تدمير ممنهج للبنية التحتية المدنية، وتعطّل الخدمات الصحية والتعليمية.
وتشير دراسات مستقلة إلى أن عدد القتلى قد يتجاوز 130 ألفاً، في وقت يعيش فيه الملايين على حافة المجاعة.
ويكشف هذا الواقع الأليم عن انهيار منظومة الحماية الدولية للسودانيين، بعدما أصبحت القرى والمدن مسرحاً لانتهاكات جسيمة تشمل القتل التعسفي، والاغتصاب الجماعي، والتجنيد القسري، والنهب الممنهج، وكلها جرائم تندرج ضمن نطاق جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وفق القانون الدولي.
وإلى جانب العنف المسلح؛ يواجه المدنيون في السودان حرباً من نوع آخر، تتمثل في منع المساعدات من الوصول. فالحصار المفروض على مناطق النزاع، وعرقلة مرور الإغاثة، يمثلان انتهاكاً صارخاً لاتفاقيات جنيف التي تُلزم أطراف النزاع بالسماح بنقل الإمدادات الإنسانية دون قيد. وفي الوقت الذي تتكدس فيه شحنات المساعدات عند الحدود؛ يواصل المدنيون الموت بصمت داخل المدن المحاصرة.
ولا يمكن اعتبار هذا السلوك مجرد تقصير إداري أو خلل في التنسيق، بل هو استخدام ممنهج للتجويع كسلاح، وهو ما يصنف في القانون الدولي الإنساني كجريمة حرب. فكل ساعة تمر دون إيصال الغذاء والماء والدواء؛ تعني حياة جديدة تُزهق بسبب قرار سياسي أو عسكري.
وبحسب تقديرات وكالات الأمم المتحدة؛ يدفع الأطفال الثمن الأكبر للنزاع، حيث يعاني الملايين منهم سوء التغذية الحاد، فيما تتعرض النساء لانتهاكات ممنهجة من عنف جنسي واستعباد قسري في بعض المناطق.
ومع أن القانون الدولي لا يكتفي بإدانة الانتهاكات بحق المدنيين، بل يفرض على المجتمع الدولي التزامات واضحة لحمايتهم ومنع استمرار الجرائم بحقهم؛ إلا أن الاستجابة الدولية للأزمة السودانية ما زالت دون الحد الأدنى من المسؤولية الأخلاقية والقانونية. فبينما تتواصل النداءات الأممية، تبقى قرارات مجلس الأمن رهينة الحسابات السياسية، ما يجعل المساعدات والعدالة معاً أسرى لصراع المصالح الدولية.
واليوم؛ يقف السودان أمام مفترق تاريخي: إما أن يوقف نزيفه عبر إرادة حقيقية للسلام، أو أن يُترك لمصيره وسط عالم يتفرج على مأساة القرن من بعيد. فالسكوت عن هذه الحرب، بكل ما فيها من جرائم وتجويع وتهجير، لم يعد حياداً، بل تواطؤاً مع الجريمة نفسها.



























