لم تكن رحيل محمد رصرص (32 عامًا) أول ضحايا المجاعة في قطاع غزة، لكنها جسدت في موتها المأساوي حجم الجريمة التي تُرتكب بحق سكان محاصرين منذ أشهر، تُركوا دون طعام، ودون علاج، ودون رحمة.
لفظت رحيل أنفاسها الأخيرة مساء الاثنين في مجمع ناصر الطبي بمدينة خان يونس، بعد أن هبط وزنها إلى النصف بفعل الجوع القاتل.
وكانت رحيل، وهي من ذوي الإعاقة، عاجزة عن الحركة، وتعاني من سوء تغذية حاد ناتج عن حصار الاحتلال الكامل للقطاع، ومنع دخول المساعدات الغذائية والطبية. وبحسب مصادر طبية؛ كان وزنها قبل أشهر نحو 50 كيلوغرامًا، لكنه تراجع تدريجيًا ليصل إلى 25 كيلوغرامًا فقط، حتى بات جسدها الهزيل غير قادر على المقاومة، وفارقت الحياة بصمت.
ورفعت وفاة رحيل عدد قتلى المجاعة في القطاع خلال 48 ساعة فقط إلى 20 قتيلًا، وسط صمت دولي خانق، وعجز متواصل عن الضغط لفتح المعابر وإدخال الغذاء والدواء.
من جانبها؛ أكدت وزارة الصحة في غزة أن سياسة التجويع المتعمدة التي ينفذها الاحتلال أدت حتى الآن إلى مقتل 86 فلسطينيًا، بينهم 76 طفلًا، بسبب سوء التغذية ونقص الرعاية الطبية.
ويمثل يجري في غزة سياسة ممنهجة تُستخدم فيها أداة التجويع كأسلوب للقتل الجماعي. ووفقاً للقانون الدولي؛ يُعد استخدام الحصار لتجويع المدنيين جريمة حرب، كما تنص المادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف.
لكن في حالة غزة، فإن هذه الجريمة تُمارس على نطاق واسع ومنظم، وترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، المنصوص عليها في اتفاقية منع جريمة الإبادة لعام 1948، والتي تشمل “فرض ظروف معيشية يقصد بها التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية”.
وخلال الأسبوع الأخير، وثّق ناشطون سقوط عدد من المدنيين في شوارع غزة من شدة الجوع، بينهم أطفال وكبار سن، في مشاهد تُعيد إلى الأذهان صور المجاعات في مناطق الحروب الكبرى، لكن هذه المرة تحدث على مرأى ومسمع العالم، وبتواطؤ صامت.
وتشكل المجاعة في غزة جزءاً من تكتيك الإبادة الجماعية الذي يمارسه الاحتلال ضد سكان القطاع منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، حيث قتل الاحتلال منذ ذلك الحين أكثر من 200 ألف فلسطيني بين قتيل وجريح، معظمهم نساء وأطفال، فيما فُقد أكثر من 9 آلاف آخرين تحت الأنقاض أو في ظروف مجهولة.
إن ما يحدث في غزة جريمة مركبة، تشمل القتل المباشر بالقصف، والقتل البطيء بالجوع، والقتل الصامت بالإهمال الطبي، وهذه جرائم لا تحتاج إلى إثبات جديد، بل إلى مساءلة حقيقية. فكل لحظة صمت إضافية، وكل بيان قلق جديد، يعني أن ضحايا آخرين سينضمون إلى رحيل، التي ذبُلت في الظل وماتت جوعًا، لأن العالم اختار أن يُدير ظهره لجريمة واضحة.