لم تكن كلماتها الأخيرة مجرد سطور عابرة، بل وصية أُمٍّ تعرف أن الموت يترصّدها كل لحظة.. الصحفية الفلسطينية مريم أبو دقة، التي اغتالها الاحتلال في قطاع غزة، تركت رسالة تقطر وجعاً وحناناً لابنها الوحيد “غيث”، أوصته فيها ألا يبكيها حين يغيبها الموت، بل أن يدعو لها، ويرفع رأسها، ويحافظ على صلاته.
“يا حبيبي يا ابني أريدك ألا تنساني”.. هكذا كتبت أبو دقة، التي أُزهقت روحها أمس الاثنين مع خمسة صحفيين آخرين، في جريمة جديدة استهدفت “مستشفى ناصر” بخان يونس، بينما قضى الصحفي السادس في منطقة المواصي.
وقالت أبو دقة في وصيتها التي نشرتها وكالة الأنباء الفلسطينية: “أريدك أن تدعو لي لا أن تبكي عليّ، حتى أكون سعيدة، أريدك أن ترفع رأسي وتكون ناجحا متفوقا وذا شأن عظيم ورجل أعمال”.
واختتمت مريم وصيتها قائلة: “أنت حبيبي وقلبي وسندي وروحي وابني الذي يرفع رأسي (..) أمانة (بعنقك) يا غيث صلاتك ثم صلاتك، ثم صلاتك يا ماما.. أمك مريم”.
وقبل دقائق من رحيلها، ظهرت مريم متعبة، تسند جسدها المنهك على مصعد بمجمع ناصر الطبي. كانت تهمس بكلمات الإيمان والرضا: “جنة تنتظر وهناء ورضوان، من قال إن من يرحل لربه خسران؟”، وكأنها تُودّع الدنيا بسلام.
عرفت مريم بين زملائها بتغطياتها الإخبارية المكثفة وقصصها الإنسانية التي لامست وجدان العالم، لكنها دفعت حياتها ثمناً للحقيقة، بعد أن فقدت أقاربها وزميلها المقرّب إبراهيم محمود في حرب الإبادة المستمرة.
وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، ارتفع عدد الصحفيين الذين قتلهم الاحتلال منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى 246 صحفيا، في وقت تُصرّ فيه قواته على استهداف المستشفيات والطواقم الطبية والإغاثية والإعلامية، رغم النداءات الحقوقية الدولية المتكررة بتحييد المدنيين والعاملين الإنسانيين.
وخلفت الإبادة المستمرة حتى اليوم 62,744 قتيلا و158,259 جريحا، معظمهم من الأطفال والنساء، إلى جانب أكثر من 9 آلاف مفقود، ومئات آلاف النازحين، ومجاعة قتلت 300 فلسطيني، بينهم 117 طفلا.
وصية مريم أبو دقة تبقى شاهدة على جريمة بحق الصحافة والإنسانية معاً؛ فقد أرادت أن تزرع الأمل في قلب طفلها، بينما قرر الاحتلال أن يزرع الموت في حياتها.