وسط الانهيار الكامل للمنظومة الإنسانية في قطاع غزة؛ لم يعد الموت مقتصراً على القصف أو الأوبئة أو التشريد، بل بات الجوع نفسه سلاحاً رئيسياً في حرب إبادة جماعية متواصلة.
ففي ظل حصار مشدد وإغلاق المعابر منذ أكثر من 140 يوماً؛ يواجه المدنيون الفلسطينيون سياسة تجويع منهجية، تُدار بعناية، وتُنفَّذ على الأرض بأدوات القتل والترويع.
وفي هذا السياق؛ وجّه المفوض العام لوكالة “الأونروا” فيليب لازاريني، تحذيراً شديد اللهجة من نموذج جديد وخطير لما يُروّج له كمبادرة إنسانية تحت مسمى “مؤسسة غزة الإنسانية”، واصفاً إياها بأنها ليست أكثر من “فخ موت سادي”.
وفي منشور عبر منصة “إكس” قال لازاريني إن ما يسمى بـ”مؤسسة غزة الإنسانية” ليس سوى واجهة زائفة تُستدرج من خلالها الحشود الجائعة، ليتم استهدافهم بنيران القناصة دون تمييز.
وأضاف: “القناصة يطلقون النار عشوائياً على الحشود كما لو كان مسموحاً لهم بالقتل”، واصفاً ما يحدث بأنه “مطاردة جماعية وسط إفلات تام من العقاب”.
وتابع: “المساعدة الإنسانية ليست عمل المرتزقة”، مؤكداً أن هذه المؤسسة تمثل تحايلاً على العمل الإنساني الأممي، وتُدار في بيئة مفخخة تُعرض أرواح المدنيين للخطر بدلاً من إنقاذهم.
وأشار المفوض الأممي إلى أن أكثر من ألف فلسطيني قُتلوا منذ نهاية مايو/أيار الماضي أثناء محاولتهم الحصول على الغذاء، واصفاً الوضع بأنه لا يمكن أن يكون “الوضع الطبيعي الجديد”، ومطالباً بوقف هذه الجريمة فوراً.
إن ما يجري في غزة ليس نقصاً عفوياً في الموارد، بل سياسة ممنهجة ترمي إلى إبادة السكان عبر التجويع، وهو ما يُعد جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية وفق القانون الدولي. وقد أكد لازاريني أن البحث عن الطعام بات مميتاً كالقصف، وأن “الأطباء والممرضين والصحفيين والعاملين في المجال الإنساني يُغمى عليهم من الجوع والإرهاق أثناء تأدية واجباتهم”.
ومع ارتفاع أسعار المواد الغذائية 40 ضعفاً، بحسب وكالة الأونروا، تُمنَع شاحنات الغذاء من دخول القطاع، رغم وجود مخزون كافٍ في مستودعات الوكالة على مشارف غزة يكفي لإطعام السكان لأكثر من ثلاثة أشهر.
وصرّح لازاريني في وقت سابق بأن التقاعس عن إجبار الاحتلال على فتح المعابر والسماح بدخول المساعدات يُمثّل تواطؤاً في تجويع المدنيين، مشيراً إلى أن “كل هذا من صنع الإنسان، في ظل إفلات تام من العقاب”.
إن استمرار العمل بنموذج “مؤسسة غزة الإنسانية” هو جزء من آلية القتل، يضفي غطاءً إنسانياً زائفاً على ممارسة ميدانية فتاكة، ويخالف بوضوح اتفاقيات جنيف التي تجرّم استخدام التجويع كوسيلة من وسائل الحرب.
ويدخل ما تشهده غزة اليوم من حصار، وتجويع، واستهداف للمدنيين خلال محاولاتهم تأمين قوت يومهم، ضمن أركان جريمة الإبادة الجماعية كما نصّت عليها اتفاقية منع الإبادة لعام 1948. ففرض “ظروف معيشية تهدف إلى التدمير الجسدي” لجماعة قومية، كما تنص الاتفاقية، ينطبق حرفياً على الحالة في القطاع.
ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، يشن الاحتلال حرباً شاملة شملت القتل والتدمير والتهجير والتجويع، خلفت أكثر من 200 ألف قتيل وجريح، معظمهم من الأطفال والنساء، وما يزيد على 9 آلاف مفقود، في وقت يعيش فيه نحو 1.5 مليون إنسان بلا مأوى، ويفتقدون أبسط مقومات الحياة.
ورغم صدور أوامر واضحة من محكمة العدل الدولية بوقف الجرائم، يواصل الاحتلال سياساته بدعم أمريكي وصمت دولي يُسهّل استمرار الإبادة، بينما يُترك الفلسطينيون ليواجهوا الموت وحدهم، حتى وهم يصطفون على شاحنة طحين.