عقدت المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا ندوة مساء الجمعة 21 مارس/آذار 2025، بعنوان “استئناف الإبادة في غزة وسط التواطؤ الدولي وازدواجية معايير صناع القرار” لتسليط الضوء على استئناف الإبادة الجماعية في غزة في أعقاب انتهاك إسرائيل أحادي الجانب لوقف إطلاق النار، والذي قوبل بصمت وتواطؤ من القوى العالمية. كما سلطت الندوة الضوء على المعايير المزدوجة في الاستجابات الدولية للصراعات العالمية – وأبرزها الموقف المتناقض للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يصور نفسه على أنه “رجل سلام” في حرب روسيا وأوكرانيا بينما يدعم علنًا المزيد من إراقة الدماء في فلسطين.
وقد ضمت الندوة مجموعة من المتحدثين البارزين ما بين برلمانيين وأكاديميين وإعلاميين، وهم: شوكت آدم، عضو البرلمان البريطاني؛ وريتشارد بويد باريت، عضو البرلمان الأيرلندي؛ وأستريد فاغنر، محامية نمساوية؛ وآرثر نيسلين، صحفي وكاتب بريطاني؛ كريس سيدوتي، عضو لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بشأن فلسطين، والبروفيسور ستيفن زونس، أستاذ الأمن الدولي والسياسة الخارجية بجامعة سان فرانسيسكو؛ والدكتور ليكس تاكينبرغ، المستشار الأول في منظمة النهضة العربية للديمقراطية والتنمية.
النائب الأيرلندي ريتشارد بويد باريت بدأ كلمته بوضع الإبادة الجماعية الحالية في غزة ضمن سياق تاريخي أوسع، موضحًا أن المشروع الصهيوني، منذ ما قبل عام ١٩٤٨، قائم بالأساس على منطق إبادة جماعية يهدف إلى تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه. وأكد أن هذا التوصيف ليس مجرد رأي شخصي، بل إنه حقيقة مثبتة، مشيرًا إلى كتابات الشخصيات المؤسسة للصهيونية التي، حسبما أوضح، أقرت صراحةً بضرورة التطهير العرقي لإقامة دولة إسرائيل، مضيًفا أن هذا المنطق لا يزال المحرك الرئيسي لكل أفعال إسرائيل اليوم.
وأضاف أنه بالنسبة للكثيرين حول العالم، ظلت حقيقة نية الإبادة الجماعية لدى إسرائيل هذه “مُقنّعة” لعقود من الزمن بروايات زائفة – مثل أسطورة “أرض بلا شعب”، أو ادعاء إقامة دولة ديمقراطية، أو مؤخرًا، ادعاء إسرائيل بأنها تدافع عن نفسها ضد الإرهاب، لكن ما حدث خلال الثمانية عشر الماضية ضد الفلسطينيين، وخاصة الفظائع التي ارتكبت في غزة، قد كشفت زيف هذه المبررات، وأكدت أن أفعال إسرائيل مدفوعة بـ”منطق همجي ومروع وإبادة جماعية”، كما يتضح ليس فقط من الدمار في غزة، بل أيضًا من التطهير العرقي المتسارع في الضفة الغربية.
أكد بويد باريت أن وقف إطلاق النار القصير لم يتحقق إلا بفضل ضغط هائل من الغضب العالمي وصمود الشعب الفلسطيني. ومع ذلك، مع عودة دونالد ترامب إلى السلطة، سقطت كل الادعاءات باحترام حقوق الإنسان، متهمًا إدارة ترامب بالسماح صراحة بارتكاب فظائع جماعية، والتخلي عن أي غطاء أخلاقي، ودعم هدف إسرائيل المتمثل في تطهير غزة عرقيًا بما يتماشى مع الطموحات الصهيونية والمصالح الإمبريالية الأمريكية. وأشار إلى مفارقة أن القوى الأوروبية تُعرب عن قلقها إزاء أفعال ترامب بينما تستغل في الوقت نفسه الحرب في غزة وموقف ترامب كذريعة لزيادة الإنفاق العسكري على صناعة الأسلحة داخل أوروبا.
واستطرد بويد باريت واصفًا التداعيات الأوسع لهذه اللحظة، مشيرًا إلى أن الإمبراطورية والاستعمار قد انكشفا الآن تمامًا، مضيفًا أن منطق الإمبريالية – المتجذر في الوحشية والمصلحة الذاتية – ينكشف، والفلسطينيون هم يدفعون الثمن الأغلى. ومع ذلك، اختتم حديثه بنبرة تفاؤل حذر، قائلاً إن هذه المعايير المزدوجة باتت واضحة لمئات الملايين، وربما مليارات الأشخاص حول العالم، مشيرًا إلى هذا تسبب في زيادة التعبئة العالمية للتضامن مع فلسطين، والتي تُعدّ رداً قوياً على هذه الازدواجية الفاضحة للمعايير.
ورداً على سؤال حول الحاجة إلى تحرك حكومي جاد يتجاوز الإدانة، قال بويد باريت إن هذا هو الحل الآن منتقدًا موقف الحكومات السلبي، مشيرًا إلى أن المقررة الخاصة للأمم المتحدة، فرانشيسكا ألبانيز، زارت دبلن مؤخراً، لكن الحكومة الأيرلندية رفضت مقابلتها. وانتقد هذا الأمر باعتباره دليلاً واضحاً على الجبن السياسي والخضوع التام لترامب.
وسلط الضوء على جهود تشريعية مختلفة في أيرلندا – بما في ذلك الدعوات إلى فرض عقوبات، وإنهاء الدعم العسكري لإسرائيل عبر المجال الجوي الأيرلندي، ووقف بيع سندات الحرب الإسرائيلية – التي تحظى بدعم الأغلبية، ولكنها لا تزال دون تنفيذ. واختتم قائلاً إن الدفاع عن حقوق الفلسطينيين ليس واجباً أخلاقياً فحسب، بل هو أيضاً مسألة مصلحة ذاتية للناس العاديين في الغرب، إذ يتحملون في نهاية المطاف تكلفة التواطؤ عبر السماح بتدفق الأسلحة إلى إسرائيل.
الدكتور ليكس تاكينبرغ بدأ مداخلته متحدثًا عن برنامج تابع لمنظمته “النهضة العربية للديمقراطية والتنمية” مهتم بالقضية الفلسطينية، مُدينًا بأشد العبارات تجدد حرب الإبادة الجماعية على غزة، والتي أشار إلى أنها أودت بحياة ما بين 600 و800 فلسطيني في الأيام الأخيرة، معظمهم من الأطفال.
وأكد أن التصعيد الأخير مثال آخر على رفض إسرائيل المتكرر احترام اتفاقيات وقف إطلاق النار، مؤكداً أنه لا هدف لها إلا التدمير الممنهج لفلسطين وشعبها، لافتًا أنه منذ دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في 19 يناير/كانون الثاني، انتهكت إسرائيل شروطه بقتل أكثر من 100 فلسطيني، وتقييد المساعدات الإنسانية ودخول المواد الأساسية إلى غزة. وعلى مدار العشرين يوماً الماضية، منعت إسرائيل دخول الغذاء والوقود والأدوية تماماً، مما أدى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وانهيار مطابخ المجتمعات المحلية، وانتشار الأمراض والمجاعة، مضيفًا أن الإجراءات الإسرائيلية الحالية – القصف الجوي واستئناف العمليات البرية – تأتي في أعقاب أكثر من 17 شهرًا من العنف الذي لا يمكن وصفه سوى “إبادة جماعية”.
كما أكد الدكتور تاكنبرغ أن العنف الإسرائيلي لا يقتصر على غزة فقط، مشيرًا إلى عملية الجدار الحديدي، وهي الحملة الإسرائيلية المستمرة ضد الضفة الغربية، والتي تستهدف بشكل خاص المناطق الشمالية مثل جنين وطولكرم ونابلس. وقد شهدت هذه المناطق قصفًا جويًا واجتياحات دبابات وتدميرًا للبنية التحتية وأوامر رسمية بالتهجير الجماعي. وسلط الضوء على نقطة أخرى مقلقة وانتهاك خطير للغاية: اعتقال مئات الفلسطينيين، والذي وصفه بأنه “اختطاف”، لافتًا أن عدد من اعتقلوا مؤخرًا يفوق عدد الأسرى المفرج عنهم في الاتفاقات السابقة، ووصف هذه الأحداث بأنها جزء من حرب مستمرة على الشعب الفلسطيني مهتما اختلف أسلوبها، سواء بالقتل أو القصف أو التجويع أو الاعتقال.
وأكد أيضًا أن هذه الحرب متجذرة في أكثر من قرن من الاستعمار الاستيطاني، وتركز على محو الشعب الفلسطيني والقضاء على حق العودة، مشيرًا إلى أن هناك أكثر من 10 ملايين لاجئ فلسطيني غير قادرون على التمتع بحق العودة إلى قراهم وبلداتهم الـ 611 في فلسطين التاريخية. وأضاف بأن هذا الحق يُشكل تهديدًا مباشرًا للهيكل الاستعماري الإسرائيلي، ويُفسر العنف والقمع الشديدين اللذين يواجههما الفلسطينيون عند تأكيد هويتهم وحقوقهم.
وفي ختام كلمته، دعا الدكتور تاكينبرغ المجتمع الدولي إلى رفض طموحات إسرائيل التوسعية واتخاذ خطوات ملموسة لمعالجة هذا الظلم التاريخي، وطالب بفرض حظر فوري على توريد الأسلحة إلى إسرائيل ووقف شراء الأسلحة منها، حيث تبيع إسرائيل الأسلحة وتقنيات المراقبة لأكثر من 100 دولة. وأشار إلى أن هذه المبيعات تُعدّ عاملًا رئيسيًا في تمكين القوة العسكرية والاقتصادية لإسرائيل، مُشددًا على ضرورة الانتقال من الإدانات الفارغة إلى العمل الجاد، مشيرًا إلى أن الاستعمار ليس دبلوماسية، والإبادة الجماعية ليست “أمن قومي”. واختتم كلمته بالحث على تعزيز حركات التضامن الشعبية وعزل إسرائيل اقتصاديًا وسياسيًا ودبلوماسيًا، دعمًا للنضال الفلسطيني من أجل التحرير والعدالة.
في كلمته، أكد البروفيسور ستيفن زونس أن هجوم إسرائيل المتجدد على غزة يمثل انتهاكًا واضحًا لاتفاق وقف إطلاق النار، لافتًا أن استئناف الهجوم أُدين على نطاق واسع دوليًا – باستثناء ملحوظ من الولايات المتحدة. وانتقد دفاع إدارة ترامب عن قرار إسرائيل بالتخلي عن الاتفاق واستئناف القصف، ووصفه بأنه جزء من نمط طويل الأمد في السياسة الخارجية الأمريكية. ووفقًا لزونس، فقد دأبت الولايات المتحدة على حماية إسرائيل عند انتهاكها الاتفاقات، وفي المقابل تُلقي باللوم على الأطراف العربية التي تُصر ببساطة على الالتزام بالشروط الأصلية للاتفاق.
وأوضح زونيس أن هذا النمط الأمريكي ليس جديدًا ويمتد إلى ما هو أبعد من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مستشهدًا بالإجراءات الأمريكية في أمريكا الوسطى وفيتنام وأماكن أخرى. وأكد أن الولايات المتحدة تُبرئ حلفائها باستمرار من أي خطأ، بغض النظر عن الحقائق، وهذا قد قوض مصداقية الولايات المتحدة كضامن لاتفاقيات السلام. في حالة غزة، قال زونيس إنه كان متفائلاً في البداية بشأن المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار، لكنه كان يشك في إمكانية الالتزام بالمراحل اللاحقة – وخاصةً مطلب انسحاب القوات الإسرائيلية – إذ يشهد التاريخ على انتهاكات إسرائيلية متكررة دون عواقب.
وأشار زونيس أيضاً إلى سياسات أمريكية أوسع نطاقاً تُمكّن توسع الاحتلال والاستعمار، مستشهداً بالاعتراف بضم إسرائيل غير الشرعي لمرتفعات الجولان. وأوضح أن مثل هذه الإجراءات تتناقض مع الخطاب الأمريكي الداعي إلى الدفاع عن القانون الدولي، وخاصة في حالات مثل أوكرانيا. وأضاف أن مقترحات السلام الأمريكية لفلسطين تتضمن دائمًا بنود تضمن لإسرائيل احتفاظها بالمستوطنات غير الشرعية وتفتيت الضفة الغربية، وأنه عندما يرفض الفلسطينيون هذه الشروط، يُتهمون برفض السلام. وقارن زونيس هذا الموقف بموقف الإدارات الأمريكية السابقة، مشيراً إلى أن الرئيس أيزنهاور أجبر إسرائيل ذات مرة على الانسحاب من غزة عام ١٩٥٧، وهو موقف يختلف تماماً عن موقف الإدارات الحديثة.
وانتقد زونيس بشدة قيادة الحزب الديمقراطي لاستمرارها في دعم المساعدات العسكرية غير المشروطة لإسرائيل، على الرغم من المعارضة الواسعة بين المواطنين الأمريكيين، مستشهدًا ببيانات استطلاعات الرأي، مشيرًا إلى أن 86% من الديمقراطيين المسجلين يؤيدون ربط المساعدات بإنهاء إسرائيل لجرائم الحرب والاحتلال، إلا أن قيادة الحزب تتجاهل هذا الشعور العام. وحذّر زونيس من أن هذا التواطؤ الحزبي يُسهم في الإبادة الجماعية المستمرة ويسهل عمليات تطهير عرقي شامل لأكثر من مليوني فلسطيني. وبينما أقرّ زونيس بتأثير جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل، ألقى باللوم الأكبر على المنطق الإمبريالي المتجذر في السياسة الخارجية الأمريكية، مستشهدًا بالدعم التاريخي للإبادة الجماعية والاحتلال في تيمور الشرقية، وغواتيمالا، وبنغلاديش، وناميبيا.
واختتم البروفيسور زونس كلمته بنبرة تفاؤل حذر، مشيرًا إلى تحول جذري في الرأي العام الأمريكي، وخاصة بين الأجيال الشابة، مشيرًا أن الطلاب اليوم يدعمون القضية الفلسطينية بأغلبية ساحقة، وهو ما يُتناقض تمامًا مع الوضع عندما بدأ التدريس في ثمانينيات القرن الماضي. وعزا هذا التحول إلى حركات مثل “حياة السود مهمة” وتنامي الوعي بالظلم الاستعماري والعرقي، مما أعاد صياغة نظرة الناس إلى حالة “إسرائيل وفلسطين”. ومع ذلك، أعرب عن قلقه من أن هذا التغيير الجيلي سيستغرق وقتًا ليؤثر على السياسات، لا سيما وأن الأمريكيين يواجهون حاليًا معارك داخلية ضد الاستبداد والعنصرية، ورغم هذه التحديات، أكد على تفاؤله بأن الوعي المتزايد في جيل الشباب سيعيدان صياغة السياسة الأمريكية تجاه تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني.
النائب البريطاني شوكت آدم بدأ كلمته منتقدًا الوضع الحالي في غزة، مشيرًا إلى أنه متفائل بطبيعته، لكن ثمانية أشهر قضاها في البرلمان أجبرته على تبني منظور أكثر واقعية، وإن كان مع ما تبقى من “نفحة تفاؤل”. وركز آدم كلمته على ثلاثة محاور رئيسية: الأبعاد الأخلاقية والسياسية والقانونية للأزمة.
على الصعيد الأخلاقي، وجّه آدم نقدًا لاذعًا للطبقة السياسية البريطانية، مُشيرًا إلى أنها فقدت بوصلتها الأخلاقية تمامًا، وأعرب عن استغرابه من اللامبالاة التي تُقابل بها عمليات القتل الجماعي للأطفال والمدنيين في غزة داخل البرلمان، حتى بعد مذبحة 400 شخص – معظمهم من الأطفال – في ملاجئ الخيام على مدار الأيام الأخيرة الماضية. كما تحدث عن جلسة أدارها داخل البرلمان حول التواطؤ العسكري البريطاني مع إسرائيل، لافتًا أن الاستجابة البرلمانية ليست قوية على مستوى الحدث، بل إن سياسي بارز مؤيد لإسرائيل عن قلقه البالغ من أن الوضع “مثير للقلق بعض الشيء”، وأن ما يحدث من مجازر للأطفال لا ترقى لأن تكون “مثيرة للقلق حقًا”.
وتساءل آدم عما إذا كان اتفاق وقف إطلاق النار قد تم بالفعل، بالنظر إلى حجم العنف واستمراريته، وخلص إلى أن الفشل الأخلاقي على المستوى السياسي لا يمكن إنكاره.
ورغم هذا الواقع الذي وصفه بالكئيب، أشار آدم إلى بوادر أمل – لا سيما على مستوى التعبئة الشعبية، مضيفًا أنه يتفق مع كلام البروفيسور ستيفن زونس حول قوة الحركات الطلابية، موضحًا كيف ساعد طلاب جامعة ليستر في جلب الطلاب الفلسطينيين إلى المدينة من خلال مخيمات العمل الطلابي التي استمرت لفترة طويلة طوال الحرب. وأكد آدم أن مئات الآلاف من الناس خرجوا إلى الشوارع باستمرار على مدار الأشهر الثمانية عشر الماضية، وأن الوعي العام لا يزال قويًا، على الرغم من التغطية الإعلامية المتحيزة، مشددًا أن صمود وعزيمة الشباب الذين يواصلون دعم القضية الفلسطينية سيكونون سببًا في أي تحول إيجابي.
ومن الناحية السياسية، سلط آدم الضوء على كيف أعادت أزمة غزة تشكيل نتائج الانتخابات في المملكة المتحدة، واستشهد بفوزه كمرشح مستقل، متغلبًا على أغلبية بلغت 22,500 صوت دون خبرة سياسية سابقة، كدليل على أن الناخبين يستخدمون الديمقراطية للتعبير عن غضبهم. وأشار إلى أن نوابًا آخرين فقدوا مقاعدهم بسبب موقفهم من غزة ودعمهم لإسرائيل، وأن حتى الناخبين المحافظين التقليديين بدأوا يعيدون النظر في آرائهم، لا سيما بعد أن كشفت زيارة برلمانية لإسرائيل عن تطرف مستوطني الضفة الغربية، واصفًا هذه التطورات بأنها بصيص أمل في مشهد سياسي مظلم.
على الصعيد القضائي والقانوني، أبدى آدم موقفًا متشائمًا، منتقدًا حكومة المملكة المتحدة لرفضها الاعتراف بارتكاب إبادة جماعية أو جرائم حرب في غزة، على الرغم من الأدلة الدامغة من المنظمات الإنسانية وشهود العيان والهيئات القانونية الدولية مثل المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية. واستذكر حوارًا شخصيًا مع وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، حيث رفض الوزير قبول الاعتراف بأن ما يحدث يشكل جريمة إبادة. وحذر آدم من أن المملكة المتحدة، التي ساهمت في تأسيس النظام القضائي الحالي، قد تُسهم أيضًا في انهياره بفشلها في تحقيق العدالة، واختتم حديثه بالإعراب عن قلقه العميق من أن النظام العالمي نفسه الذي بُني لمنع مثل هذه الفظائع ينهار الآن – جزئيًا بسبب صمت بريطانيا وتواطؤها.
الصحفي البريطاني آرثر نيسلين ركز في مداخلته على قضية التحيز الإعلامي من منظور تجربته الشخصية كصحفي، بما في ذلك فترة عمله في إذاعة بي بي سي خلال الانتفاضة الثانية. وكشف كيف أن قرارات السياسات التحريرية غالبًا ما كانت تُوجَّه بالتأثير السياسي، حيث كان محررو بي بي سي يعقدون اجتماعات أسبوعية مع وزارة الداخلية البريطانية لتلقي إرشادات حول اللغة المقبولة، حيث كان يتم استبدال مصطلحات مثل “اغتيال” بـ”عمليات قتل مستهدفة”، حتى أن كلمة “احتلال” لم تكن مقبولة، واصفًا هذه البيئة بأنها بيئة يُحصر فيها الصحفيون ضمن نطاق ضيق من الرأي المقبول، تُمليه مصالح الدولة والمؤسسات.
وأوضح أنه في أعقاب أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول، نجحت إسرائيل في تأطير روايتها في وسائل الإعلام الغربية من خلال تصوير الهجوم على أنه غير مسبوق، وحشي، ودون المستوى الإنساني، مُشبِّهةً حماس بداعش. وأشار نيسلين إلى أن هذه الاستراتيجية، المتجذرة في الفكر الاستعماري، كانت فعالة بشكل خاص في دول مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة، ذات الإرث الاستعماري الذي يُشجِّع الجماهير على رؤية “الآخر” على أنه أقل من أن يُعامل كإنسان. نتيجةً لذلك، أُبلغ عن وفيات الفلسطينيين بوزنٍ وقيمةٍ أقل بكثير من وفيات الإسرائيليين، لتواصل وسائل الإعلام الغربية بذلك اتجاهًا راسخًا من اختلال التوازن السردي.
سرد نيسلين أمثلةً من فترة عمله في هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) ليُظهر كيف تُقلّل وسائل الإعلام من شأن وجهات النظر الفلسطينية أو تُغفلها، وتحدث عن حادثةٍ قام فيها مُحررٌ بمراقبة نصٍّ كتبه لتساؤله عن دوافع شخصٍ ما لتنفيذ تفجيرٍ وصف بالانتحاري. كما ناقش كيف سُحب بيان مرسل من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عقب اغتيال إسرائيل لأبو علي مصطفى تحت ضغطٍ من السفارة الإسرائيلية. أدى هذا القرار إلى عدم منطقية السياق عندما اغتالت الجبهة الشعبية لاحقًا الوزير الإسرائيلي رحبعام زئيفي، وتُرك الجمهور دون تفسيرٍ للدافع. وقال نيسلين إن هذه التجارب تعكس الفشل الأوسع لوسائل الإعلام الغربية في التعامل مع القوة المحتلة والشعب المُحتل على قدم المساواة.
ثم انتقل إلى استخدام اللغة كأداةٍ لتبرير الجرائم، موضحًا كيف تُمارس وسائل الإعلام معايير مزدوجة في الإبلاغ عن الضحايا، مستشهدًا بدراسة أجرتها مجموعة غلاسكو الإعلامية، وأشار إلى أن مصطلحات مثل “قتل” و”مجزرة” و”فظاعة” استُخدمت عشرات المرات لوصف القتلى الإسرائيليين، لكنها لم تُستخدم ولو مرة واحدة لوصف العدد الأكبر بكثير من القتلى الفلسطينيين. وأظهرت دراسات أخرى أن الإعلان عن حالات القتل بين الإسرائيل كانت تُذكر في وسائل الإعلام الغربية بمعدل ثماني مرات أكثر من الإبلاغ عن حالات القتل بين الفلسطينيين.
وانتقد نيسلين تكرار وسائل الإعلام الرئيسية للتصريحات الصحفية الإسرائيلية، مستخدمةً عناوين تقلل من حجم الدمار، مثل “إسرائيل تُعرب عن أسفها” أو “إسرائيل تقول إنها تُخفف من وطأة حرب غزة”.
وأخيرًا، ناقش نيسلين حرب المعلومات الأوسع نطاقًا التي تُشن بالتزامن مع الهجوم العسكري، مشيرًا أن إسرائيل كان لديها 200 شخص يعملون في مكتبها الصحفي في بداية الحرب، يُركزون على الدعاية والتضليل، بينما تفرض في الوقت نفسه رقابة عسكرية على الصحفيين الدوليين. وسلط الضوء على القتل الجماعي للصحفيين الفلسطينيين في غزة، مؤكدًا أن هذه القضية الحرجة لا تحظى إلا باهتمام ضئيل، على الرغم من آثارها الجسيمة على حرية الإعلام وقول الحقيقة. و
اختتم نيسلين كلمته معربًا عن خيبة أمله من فشل نقابات الصحفيين في الاستجابة، ودعا إلى تفكير جدي في أوساط المهنة، بما في ذلك إمكانية مقاطعة مكتب الصحافة الحكومي الإسرائيلي ردًا على اعتداءاته على الصحفيين، وأكد أن الإعلام بحد ذاته جبهة في هذه الحرب، وأن التقاعس عن الدفاع عنه يُعدّ شكلًا من أشكال التواطؤ.
عضو لجنة تحقيق الأمم المتحدة بشأن فلسطين وإسرائيل كريس سيدوتي بدأ مساهمته واصفًا الوضع في إسرائيل وفلسطين بأنه حربٌ مستمرة منذ مئة عام، لافتًا أن الأشهر الثمانية عشر الماضية كانت مروعةً على نحوٍ فريد. وأشار إلى أنه لم يسبق أن شهدنا مثل هذا القدر من المجازر والدمار واستخدام التجويع كسلاح، ولم تكن آفاق السلام تبدو بهذا القدر من الضعف.
قدّم سيدوتي لمحةً عامة عن عمل لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة، مشيرًا إلى أنها أصدرت خمسة تقارير حتى الآن حول الأحداث منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، مشيرًا أن اللجنة ستصدر المزيد قريبًا. وفيما يتعلق بفحص اللجنة لممارسات إسرائيل، ذكر أن اللجنة خلصت إلى أن المذبحة والتدمير والحصار الذي مارسته القوات الإسرائيلية منذ ذلك الحين تُشكّل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وأضاف أن العديد من هذه الأعمال صُنّفت على أنها إبادة جماعية بطبيعتها، على الرغم من أن اللجنة لم تُنهِ بعد تقييمها لنية الإبادة الجماعية، وهو شرط قانوني لإثبات الإبادة الجماعية بموجب القانون الدولي. ومع ذلك، أكد سيدوتي وقوع انتهاكات جسيمة للقانون الدولي بما لا يدع مجالًا للشك.
وبالتطرق إلى استئناف الأعمال العدائية، وصف سيدوتي ذلك بأن ما يحدث يعتبر مأساة لغزة ولجميع شعوب المنطقة، وتصعيد خطير في انتهاكات القانون الدولي، وانتقد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لكونه عاجزًا وغير فعال، لا سيما في سياق فلسطين وإسرائيل. وحثّ الدول المختلفة مثل المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي والكومنولث على اتخاذ إجراءات فعّالة. واستذكر دور الكومنولث السابق في معارضة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، مطالبًا إياه أن يعاود التحرك سعيًا لتحقيق العدالة، لا سيما بالنظر إلى الدور التاريخي لبريطانيا في فلسطين تحت الانتداب.
واختتم سيدوتي كلمته بالتأكيد على أهمية العمل الفردي والجماعي لوقف الجرائم المرتكبة. ودعا المواطنين إلى محاسبة حكوماتهم. وأشار إلى الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الصادر في يوليو/تموز 2023، والذي أكد على مسؤولية جميع الدول في إنهاء دعم الاحتلال والمستوطنات غير القانونيين، والضغط من أجل العودة إلى الشرعية الدولية. ودعا الحكومات والأفراد على حد سواء إلى تحويل تركيزهم بعيدًا عن مجلس الأمن الدولي غير الفعال، والمطالبة بالإجراءات الملموسة التي يمكنهم اتخاذها لإنهاء هذه المأساة المستمرة.
اختتمت الندوة بكلمة من المحامية النمساوية أستريد فاغنر التي ركزت في كلمتها على القيود المتزايدة على حرية التعبير في النمسا وألمانيا، وخاصةً فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، واصفة كيف أن الإجراءات القانونية جعلت من الصعب للغاية التعبير عن التضامن مع فلسطين، مشيرةً إلى أن شعار “من النهر إلى البحر، فلسطين حرة” يُجرّم بموجب القانون النمساوي الحالي. وأوضحت أن هذه البيئة القانونية تُلقي بظلالها السلبية، ليس فقط على النشطاء، بل على المحامين وموكليهم أيضًا، إذ لم تعد حرية التعبير مكفولة كما كانت في السابق.
وأكدت أن هذا القمع ليس سياسيًا فحسب، بل قانونيًا أيضًا، إذ يواجه الأفراد الملاحقة القضائية لمجرد انتقادهم السياسات الإسرائيلية أو الصهيونية، حتى عندما يكون هذا النقد مختلفًا تمامًا عن معاداة السامية. وأعربت فاغنر عن قلقها إزاء تزايد خلط الصهيونية وإسرائيل بالهوية اليهودية، مما يُصعّب على منتقدي الدولة الإسرائيلية التعبير عن مخاوفهم دون مواجهة اتهامات بخطاب الكراهية. وسلطت الضوء على تضييق حرية التعبير، لا سيما عندما يحاول أي شخص انتقاد الروايات التي تدعمها الدولة حول الحرب على غزة.
كما شاركت فاغنر تفاصيل حول مؤتمر يهودي مناهض للصهيونية سيُعقد في فيينا في يونيو/حزيران 2025، وينظمه نشطاء يهود يعارضون تصرفات الدولة الإسرائيلية، مشيرة إلى المفارقة التاريخية المتمثلة في استضافة فيينا للمؤتمر الصهيوني الأول، الذي وضع أسس قيام إسرائيل، وستستضيف الآن أيضًا مؤتمرًا يهوديًا مناهضًا للصهيونية، مما يمثل لحظة رمزية مهمة.
ورغم الضغوط والتحديات القانونية، أكدت فاغنر عزمها – وعزم كثيرين غيرها – على مواصلة الدفاع عن الحق في التعبير بحرية وانتقاد عنف الدولة ضد كل من يؤيد القضية الفلسطينية. واختتمت كلمتها بالتأكيد على أن النضال من أجل حرية التعبير في أوروبا مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالنضال الأوسع من أجل العدالة في فلسطين، مؤكدة أن إسكات الانتقادات لا يؤدي إلا إلى ترسيخ الإفلات من العقاب والقمع.