عقدت المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا مساء الثلاثاء 22 أبريل/نيسان 2025 ندوة لتسليط الضوء الانهيار الكارثي لنظام الرعاية الصحية في غزة وسط الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة ضد الشعب الفلسطيني. وقد هدفت الندوة إلى توثيق التدمير المتعمد للبنية التحتية الطبية، واستهداف وقتل العاملين في مجال الرعاية الصحية، واستخدام التجويع والحصار كأسلحة حرب، والحرمان من الوصول إلى الرعاية الطبية الأساسية.
ضمت الندوة مجموعة من المتحدثين البارزين، بمن فيهم أطباء عادوا مؤخرًا من غزة وخبراء صحيين دوليين بارزين. وكان من بين المتحدثين الدكتور فيروزا سيدهوا، أخصائي جراحة الصدمات والجراحة العامة من الولايات المتحدة؛ والدكتور بنيامين طومسون، طبيب كندي؛ والدكتورة ماهيم قريشي، جراحة أوعية دموية بريطانية؛ والدكتور مارك بيرلماتر، جراح أمريكي؛ والدكتور زهير لهنا، جراح التوليد وأمراض النساء الفرنسي؛ والدكتور منير البرش، مدير عام وزارة الصحة في غزة؛ والدكتور أسامة عبد الحي، نقيب الأطباء المصريين؛ والدكتورة تلالنج موفوكينج، المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في الصحة.
بدأ الدكتور فيروزا سيدهوا، أخصائي جراحة عامة وإصابات من كاليفورنيا، حديثه بسرد تجربته الأخيرة في مجمع ناصر الطبي بغزة، حيث تواجد هناك بين 6 مارس/آذار و1 أبريل/نيسان 2025، وهي ثاني مهمة طبية له إلى غزة بعد زيارة سابقة للمستشفى الأوروبي في العام السابق. خلال مداخلته، شارك قصة مؤثرة وشخصية للغاية عن علاجه لصبي يبلغ من العمر 16 عامًا يُدعى إبراهيم برهوم، أصيب بشظايا في أمعائه السفلية بعد استئناف القصف الإسرائيلي في 18 مارس/آذار، ورغم خطورة إصاباته، تعافى إبراهيم بصورة كبيرة بعد الجراحة، وبدأت حالته النفسية تتحسن كذلك خلال إقامته في المستشفى. وصفه الدكتور فيروزا بأنه فتى قوي الإرادة وطيب القلب، حافظ للقرآن الكريم، وقد قُتل شقيقه التوأم في وقت سابق من الحرب، لافتًا أن من يرعاه كان أبوه، الذي كافح لسنوات من أجل الحمل من خلال التلقيح الصناعي، مشيرًا أن إبراهيم كان أخر أفراد عائلته المتبقين مع والده.
استطرد الدكتور فيروزا في سرد أحداث الأمسية المأساوية في 23 مارس/آذار، فبينما كان يستعد لتغيير ضمادات إبراهيم، استُدعي إلى وحدة العناية المركزة لتقييم حالة فتى آخر، نُقل من مستشفى ميداني وكان ينزف بشدة. وبينما كان يغادر وحدة العناية المركزة لمواصلة جولاته، أصاب صاروخ المستشفى، فأصاب غرفة إبراهيم مباشرة. ووصف د. فيروزا القصف الإسرائيلي للمستشفى بأنه متعمد بصورة لا تدع مجال للشك لافتًا أنه على الأرجح نُفذ باستخدام صاروخ أطلقته طائرة بدون طيار. وبحسب ما ورد من جيش الاحتلال، كان الهدف المقصود أحد أقارب لإبراهيم، ويُدعى إسماعيل برهوم، والذي وصل إلى المستشفى قبل ساعات فقط وهو في حالة حرجة. ولأن الاثنين كانا قريبين، فقد وُضعا في نفس الغرفة، مما أدى إلى وفاة إبراهيم إلى جانب إسماعيل.
ثم استذكر لحظة إنزال جثة إبراهيم ملفوفةً ببطانية، وكيف تعرّف على بطن مريضه حتى قبل أن يرى وجهه، بسبب التشوه الشديد الذي أحدثه الانفجار. تمزقت فتحة القولون لديه، وخرجت أحشاؤه. أدان الدكتور فيروزا بشدة الهجوم، واصفًا إياه بأنه “جريمة مزدوجة أو حتى ثلاثية”، موضحًا أنه حتى لو كان إسماعيل برهوم هدفًا عسكريًا مشروعًا – وهو ادعاء نفاه – فإن قتله بعد إصابته وتلقيه الرعاية في المستشفى يظل غير قانوني بموجب القانون الدولي، لأن القانون الإنساني الدولي يحمي الجرحى في المرافق الطبية، بغض النظر عن هويتهم. وأكد أن الهجوم على إبراهيم، وقصف المستشفى، وتجربة الموت التي نجا منها بأعجوبة -حيث سقط الصاروخ على غرفة إبراهيم بعد مغادرته بخمس دقائق على الأكثر- كلها تُشكل جرائم حرب خطيرة. واختتم كلمته محذرًا من أن مثل هذه الأعمال تُمثل عودة إلى الهمجية، وتنتهك قوانين الحرب التي سُنّت منذ ما قبل نهاية الحرب الأهلية الأمريكية، وأعرب عن أمله في اتخاذ إجراءات لعكس هذا التراجع.
بدأ الدكتور بنيامين طومسون، وهو طبيب كندي يزور غزة بانتظام منذ عام 2013، مداخلته بالحديث عن تاريخ الاحتلال في استهداف المدنيين، ليس فقط منذ السابع من أكتوبر، بل قبل ذلك بكثير، لافتًا أنه نفسه شاهد عيان على العديد من الهجمات العسكرية ضد المدنيين منذ بدايات زياراته لغزة قبل أكثر من 10 سنوات.
سلط د. طومسون الضوء على الاحتجاجات السلمية التي شهدتها مسيرة العودة الكبرى عام 2019، حيث احتشد الفلسطينيون من جميع شرائح المجتمع – شبابًا وكبارًا، مسيحيين ومسلمين، أصحاء، وذوي إعاقة – للمطالبة بحقهم في العودة وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي غير الشرعي لبلادهم. واستذكر أنه شهد بنفسه جرائم الحرب التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية خلال هذه الاحتجاجات، بما في ذلك الاستهداف المتعمد لمقدمي الرعاية الصحية الذين تم تحديد هويتهم بوضوح، والأطفال، والصحفيين، والأفراد ذوي الإعاقة. وقد دفعته هذه الأفعال إلى الإدلاء بشهادته أمام المحكمة الجنائية الدولية، وهي شهادة تتفق مع ما أكدته الأمم المتحدة بأن استهداف إسرائيل للأفراد المحميين، في انتهاك للقانون الدولي. وأكد د. طومسون أن الفظائع المرتكبة اليوم في غزة هي استمرار لسياسة إسرائيل طويلة الأمد المتمثلة في الاحتلال غير الشرعي والعنف الممنهج.
وبالعودة إلى الحاضر، وصف الدكتور بنيامين الواقع المدمر الذي شهده خلال زيارته الأخيرة إلى غزة في مارس/آذار 2024 وسط الإبادة الجماعية المستمرة التي ترتكبها إسرائيل. عرض صورًا من مقابر حُفرت حديثًا في رفح، حيث تُدفن عائلات بأكملها في قبور فردية، لافتًا أن كل قبر -بلا استثناء- يضم عددًا كبيرًا من الأطفال.
وأكد د. طومسون أن أكثر من 90% من البنية التحتية المدنية في غزة قد دُمرت، مما أجبر الناس على العيش في خيام دون الحصول على مياه نظيفة أو صرف صحي أو رعاية طبية، مشيرًا إلى أن هذه العوامل تسببت في الانتشار المتفشي لأمراض كان يمكن الوقاية منها مثل التهابات الجهاز التنفسي والإسهال، وخاصة بين الأطفال. وسلط الضوء على الاستهداف المتعمد لنظام الرعاية الصحية في غزة، مشيرًا إلى مقتل اثنين من كبار أخصائيي علم الأمراض في مستشفى الشفاء – أحدهما كان مسؤولاً عن معظم خزعات السرطان في القطاع – مما أدى إلى انهيار تام لتشخيص السرطان. كما أدى تدمير مستشفى الرنتيسي للأطفال ومستشفى الصداقة التركي، وكلاهما كان يخدم مرضى السرطان، إلى جعل علاج السرطان غير متاح تمامًا.
وشرح الدكتور طومسون بمزيد من التفصيل كيف أدت عمليات القتل المستهدفة للعاملين في المجال الطبي إلى تفكيك تدمير الرعاية المتخصصة. وتحدث عن الدكتور همام اللوح، الطبيب الذي كان من المقرر أن يقود برنامجًا جديدًا لتدريب الكلى، والذي قُتل مع عائلته عندما قُصف منزله، ولم تتمكن سيارات الإسعاف التي كان من الممكن أن تنقذه من الوصول إليه بسبب الهجمات الإسرائيلية على سيارات الإنقاذ. كما تحدث عن مقتل طبيب أسنان أمضى عقدًا من الزمان في إدارة منشأة إعادة التأهيل والرعاية طويلة الأجل الوحيدة في غزة، والتي دُمرت في غارة جوية مستهدفة أودت بحياته هو ومعظم المرضى.
خلال كلمته، قدم د. طومسون أيضًا أدلة على التعذيب المنهجي للفلسطينيين، بمن فيهم العاملون في مجال الرعاية الصحية، على يد القوات الإسرائيلية، حيث ظهرت على المعتقلين العائدين إصابات ضغط شديدة وعلامات تعذيب واضحة. وفي ختام كلمته، دعا الدكتور طومسون العاملين في مجال الرعاية الصحية إلى تطبيع استخدام المصطلحات القانونية الدقيقة – الإبادة الجماعية والفصل العنصري والاحتلال غير القانوني – كما اعتمدتها محكمة العدل الدولية. وشدد على أن المقاومة الفلسطينية السلمية قوبلت بقمع وحشي، مذكرًا الحضور أيضًا بأنه بموجب القانون الدولي، تظل المقاومة المسلحة حقًا قانونيًا. وحث على الوحدة في استخدام الأطر الإنسانية وحقوق الإنسان الدولية للمطالبة بإنهاء الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة على الفور، مؤكدًا أن هذا الوضع كان يستدعي تدخلًا عاجلًا منذ فترة طويلة.
بدأ الدكتور منير البرش، المدير العام لوزارة الصحة في غزة، مداخلته بالإشارة إلى أن الاحتلال الإسرائيلي يستهدف القطاع الصحي بشكل ممنهج، في إطار سياسة تهدف إلى تهجير السكان قسرًا وتجريدهم من أدنى مقومات البقاء. وأوضح أنه من بين 38 مستشفى في قطاع غزة، لم يتبقَ سوى 18 مستشفى تعمل جزئيًا، في حين خرجت 20 مستشفى عن الخدمة بشكل كامل، من بينها مستشفى الشفاء، الذي يُعد أكبر منشأة طبية في غزة وكان يقدم ما يقارب نصف خدمات الرعاية الصحية في القطاع. كما أشار إلى تدمير 6 مستشفيات تدميرًا كليًا، وإلى أن من بين 103 مراكز رعاية أولية، لم يعد يعمل سوى 38 مركزًا بشكل جزئي، بينما دمّر الاحتلال 27 مركزًا بالكامل. وأكد أن الاحتلال ارتكب انتهاكات صارخة بحق الطواقم الصحية، حيث قُتل أكثر من 1400 من العاملين في القطاع الصحي، من بينهم ابن عم الدكتور عدنان البرش الذي اعتُقل وقُتل تحت التعذيب في سجون الاحتلال، بالإضافة إلى مقتل 150 طبيبًا و221 ممرضًا. كما تم اعتقال أكثر من 360 من الكوادر الصحية، من بينهم الدكتور حسام أبو صفية الذي لا يزال الاحتلال يماطل في إطلاق سراحه، فضلًا عن استهداف طواقم الإسعاف والفرق الإنسانية، حيث قُتل أكثر من 1300 عامل في المجال الإنساني، بينهم 15 مسعفًا في رفح.
كما سلط الدكتور منير الضوء على التدهور الخطير في القدرة السريرية والخدمات الصحية داخل المنشآت الصحية في غزة، مشيرًا إلى أن عدد الأسرّة في مستشفيات غزة انخفض من نحو 3400 سرير إلى 1600 فقط، أي بنسبة انخفاض تجاوزت 52%، في حين تراجعت أسِرّة العناية المركزة من 312 إلى 52 سريرًا فقط، وأسِرّة عناية حديثي الولادة من 162 إلى 75 سريرًا. كما أشار إلى أن عدد مرضى الفشل الكلوي قبل الحرب بلغ 1244 مريضًا، لم يتبقَ منهم اليوم سوى 720 مريضًا، ما يعني أن 40% منهم توفوا نتيجة نقص العلاج والأدوية. وانخفض عدد أجهزة غسيل الكلى من 178 إلى أقل من 90 جهازًا. وأضاف أن الاحتلال دمّر المختبر الوحيد للصحة العامة الذي كان يُستخدم لفحص المياه والأغذية. واستنادًا إلى تقارير مشتركة مع منظمة الصحة العالمية واليونيسف، أشار إلى وجود أكثر من 50,000 امرأة حامل ومرضع محرومات من الرعاية الصحية، وإلى أن أكثر من 60,000 طفل يعانون من سوء التغذية، توفي منهم 52 طفلًا بسبب الجوع، و17 آخرون بسبب البرد القارس. كما أشار إلى حرمان 80,000 مريض بالسكري و110,000 مريض بارتفاع ضغط الدم من الأدوية والعلاج، مؤكدًا أن جميع هذه الإحصائيات موثقة ضمن برنامج “صحتي” المعتمد بالشراكة مع جهات أممية.
وتحدث الدكتور منير عن أزمة اللقاحات، موضحًا أن 600,000 طفل تم تطعيمهم ضد شلل الأطفال في الجرعة الأولى، لكن الاحتلال منع دخول اللقاحات للجرعة الثانية، ما أدى إلى ظهور فيروسات وسلالات متحورة.
وناشد د. منير المجتمع الدولي لإدخال لقاحات الحصبة والسل وغيرها، مشيرًا إلى أن 22,000 مريض بحاجة ماسة للعلاج في الخارج، بينهم 13,000 استكملوا إجراءات التحويل تحت إشراف منظمة الصحة العالمية، إلا أنهم عاجزون عن السفر بسبب الإغلاق.
كما تحدث د.منير عن أزمة الوقود، ومنع إدخال مولدات الأكسجين، وتطرق إلى الكارثة الإنسانية المتمثلة في الإعاقات التي خلّفتها الحرب، حيث تم تسجيل 25,000 حالة إعاقة، بينها 4700 حالة بتر، 18% منها لأطفال، ونحو 1800 إصابة في الدماغ والحبل الشوكي تسببت في إعاقات دائمة. وأشار إلى أن 54% من أدوية السرطان وأمراض الدم غير متوفرة، إلى جانب 40% من أدوية الرعاية الأولية، و51% من أدوية الأمومة والطفولة، و42% من لقاحات الأطفال.
واختتم د. منير مداخلته بدعوة عاجلة باسم وزارة الصحة إلى المجتمع الدولي ومنظمات الصحة العالمية للتدخل الفوري لوقف الانهيار الصحي المتسارع، مؤكدًا أن الحصار الكامل المستمر منذ أكثر من 40 يومًا، وإغلاق المعابر أمام الغذاء والدواء، يدفع الأوضاع إلى مزيد من التدهور والدمار، مطالبًا بتأمين سفر المرضى وحماية الطواقم والمنشآت الطبية وفقًا للقانون الإنساني الدولي.
الدكتور أسامة عبد الحي، نقيب الأطباء المصريين، بدأ مداخلته بالتأكيد على أن حجم الفظائع المرتكبة في غزة معروف على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم، واصفًا الوضع بأنه دمار شامل، لافتًا أن هناك إبادة جماعية ممنهجة واستهداف متعمد للمستشفيات والأطباء والممرضين ومقدمي الرعاية الصحية والنساء والأطفال. وأكد أن ما يحدث في غزة يُمثل سلسلةً عارمة من الجرائم ضد الإنسانية، وأن الواقع على الأرض قد شهده المجتمع الدولي بوضوح. ووفقًا للدكتور أسامة، لا يوجد شك في طبيعة هذه الجرائم أو مرتكبيها – فقط في غياب تحرك دولي حاسم.
وركز الدكتور أسامة في مداخلته على الحاجة الملحة لوقف إطلاق النار، قائلاً إنه بدون وقف العدوان، ستصبح المناقشات حول الاستجابة الإنسانية أو التدخل الطبي عقيمة. وأكد أن الدعوة إلى وقف إطلاق النار يجب أن تكون المطلب الفوري والمحوري للمجتمع الدولي.
وأكد الدكتور أسامة أن أكثر من 2000 طبيب مصري مستعدون لدخول غزة حالما يتم التوصل إلى وقف إطلاق النار، مشيرًا إلى أن الكوادر الطبية المصرية، من أطباء وممرضين، مستعدون لتقديم الدعم الدوري على مدار العام، وإرسال ما يصل إلى 500 متخصص طبي شهريًا عند الحاجة.
وأكد الدكتور أسامة مجددًا أنه بدون إنهاء القصف والحصار، لا يمكن أن تتم التعبئة الطبية الدولية والسفر إلى غزة، وأعرب عن إحباطه من إمكانية استمرار المفاوضات في حين تستمر جرائم إسرائيل يوميًا دون انقطاع. ووصف أفعال الجيش الإسرائيلي في غزة بأنها تشمل جميع أشكال جرائم الحرب، مؤكدًا أن التركيز الآن يجب أن يتحول من المراقبة إلى العمل. واختتم الدكتور أسامة كلمته قائلاً إنه يدعم كل الجهود المبذولة للمضي قدمًا – ليس فقط نحو وقف إطلاق النار الفوري، ولكن أيضًا نحو المساءلة وتقديم الدعم الطبي العاجل لأهل غزة.
بدأت الدكتورة ماهيم قريشي، وهي جراحة أوعية دموية بريطانية، مداخلتها موضحة أنها أمضت شهرين في غزة خلال العام الماضي، وكان وقتها أكثر من عشرة أطفال يفقدون أطرافهم بصورة يومية، وأشارت إلى أنه بحلول أبريل/نيسان 2024، لم يكن هناك جراح أوعية دموية متاح في المنطقة الوسطى من غزة لمدة ثلاثة أشهر على الأقل.
وتحدثت عن رحلتها إلى غزة، التي تعطلت لمدة 48 ساعة بسبب العراقيل الإسرائيلية، وفي اليوم السابق لوصولها، اغتالت القوات الإسرائيلية العاملين في المجال الإنساني من مطبخ وورلد سنترال، مما تسبب في انسحاب جميع منظمات الإغاثة الأخرى – تاركةً إياها وفريقها العاملين الإنسانيين الوحيدين الذين دخلوا غزة في ذلك اليوم. عند وصولها إلى مستشفى شهداء الأقصى، وجدت وحدة ولادة تضم 150 سريراً مكتظة بأكثر من 1000 مريض وأكثر من 3000 نازح يحتمون في المستشفى وحوله. وقالت إن الناس كانوا متكدسين في الأجنحة والممرات، وكان الناس ينامون في السلالم، وكانت كل شبر تقريبًا من مساحة الأرضية مشغولة.
وتحدثت الظروف الطبية المزرية التي أُجبروا على العمل فيها، لافتة أنه كان من شبه المستحيل توفير بيئات جراحية معقمة بسبب نقص الستائر الجراحية الأساسية والمعدات الضرورية. وذكرت أن بسبب التلوث المنتشر وعدم توفر الأدوات المناسبة، اقتربت معدلات العدوى بعد العمليات الجراحية من 100%، وهو ما قالت إنه أمر غير مقبول في أي نظام صحي في العالم. لم يكن هذا فقط بسبب الاكتظاظ وانعدام النظافة – حيث كان آلاف الأشخاص يتشاركون حمامًا أو دشًا واحدًا – ولكن أيضًا بسبب سوء التغذية الحاد وغياب المضادات الحيوية أو أي وسيلة لزرع العدوى.
وأوضحت د. ماهيم أن معظم الإصابات التي عالجتها كانت ناجمة عن الانفجارات والشظايا، مع بعض جروح طلقات نارية. ومن أكثر الحالات المروعة التي ذكرتها حالة فتاة في الثامنة أو التاسعة من عمرها أصيبت برصاصة في رأسها، مما أدى إلى شللها. وصفت الدكتورة ماهيم فظاعة محاولة إجراء جراحة أعصاب دون توفر أي منشار أو مثقاب طبي – وهي أدوات تمنع إسرائيل دخولها إلى غزة عبر المساعدات الإنسانية.
وأضافت د. ماهيم أن ما يقرب من نصف مرضاها لم يكونوا مصابين بجروح حرب، بل كانوا يعانون من أمراض قابلة للعلاج تطورت إلى الوفاة نتيجة تدمير البنية التحتية للرعاية الصحية في غزة. وروت المعاناة النفسية العميقة لعودتها إلى غزة، حيث وجدت زملاءها السابقين نحيفين، وعامة السكان يعانون من “تشوهات” جسدية بسبب سوء التغذية. لاحظت علامات نقص البروتين لدى الأطفال، بما في ذلك تفتيح لون الشعر بشكل غير طبيعي، وهو ما وصفته بأنه تغيير ملحوظ في التنوع السكاني المعتاد في غزة. خلال فترة عملها في مستشفى ناصر، الواقع ضمن ما يُسمى “بالمنطقة الإنسانية” كما يدعي الاحتلال، واجهوا في المتوسط أكثر من حادثة إصابة جماعية واحدة يوميًا. كما تحدثت بالتفصيل عن الخسائر الخفية للحرب، من ارتفاع معدلات وفيات الأمهات، والتشوهات الخلقية لدى المواليد الجدد نتيجةً للانعدام التام لرعاية ما قبل الولادة، وانتشار الموت جوعًا على نطاق واسع. وأكدت أن هذه الفظائع لا تظهر في الإحصاءات الرسمية، بل هي النتيجة المباشرة للاستخدام الممنهج للتجويع كسلاح حرب، وهي سياسة لاإنسانية يجب وضع حد لها.
الجراح الأمريكي د. مارك بيرلماتر، والذي مؤخرًا من مهمته الثانية في غزة، بدأ كلمته بالإشارة إلى سوء التغذية المتفشي، والالتهابات شبه الشاملة بعد العمليات الجراحية، واستهداف العاملين في مجال الرعاية الصحية، بمن فيهم الممرضات والطاقم الجراحي والأطباء. واستذكر رؤيته أطفالًا يُطلق عليهم قناصة إسرائيليون النار – في الرأس والصدر – أحدهم أُطلق عليه النار مرة أخرى بعد وفاته أمام والده. وأشار إلى قوافل المساعدات التي امتدت لأميال ولم تدخل إلى غزة بسبب المنع الإسرائيلي، مشيرًا إلى أن هذا الحصار المفروض على المساعدات كان متعمدًا ومدمرًا. وأثناء سرده لقصف مستشفى نجا فيه شريكه الدكتور فيروزا سيدهوا من الموت بأعجوبة، تحدث الدكتور بيرلماتر عن تدمير نظام الرعاية الصحية في غزة بأنه جزء من حملة أوسع نطاقًا لتقويض معنويات الشعب الفلسطيني وتدميره بهدف سرقة الأراضي. أكد على هذه النقطة بصفته جراحًا يهوديًا أمريكيًا، مشيرًا إلى أن 95% من مرافق الرعاية الصحية أصبحت الآن معطلة، وأن ما يحدث ليس أضرارًا جانبية، بل إبادة متعمدة.
ووصف تجاربه في مستشفيي ناصر والأقصى، حيث انهارت القدرات الجراحية خلال أحداث الاستهدافات والإصابات الجماعية. في مستشفى الأقصى، وبعد انتهاء وقف إطلاق النار، وصل 70 مريضًا بحاجة إلى جراحة عاجلة خلال ليلة واحدة، ما تسبب في نفاد الإمدادات والأدوات الطبية بسرعة – استنفدت معدات تقويم العظام، واختفت الأدوات الكهربائية، وحتى أجهزة التصوير الأساسية لم تكن متوفرة. وروى كيف اضطر لإصلاح كوع طفل مكسور باستخدام رؤوس مثقاب مهملة، كانت مخصصة للاستخدام المتكرر ولكنها كانت أجهزة التثبيت الوحيدة المتبقية. وشرح بالتفصيل كيف اضطر آخر جراح عظام متبقٍ إلى الفرار بعد تهديده بالقتل بسبب انتماء زوجته للأمم المتحدة، على الرغم من أنها لم تمارس طب الأسنان لأكثر من عام. مع ذلك، لم يُترك للدكتور بيرلماتر سوى الأطباء المقيمين لإجراء العمليات، واضطر في النهاية إلى نقل المرضى إلى مستشفى ناصر بسبب نقص المستلزمات الجراحية، وقد قاده هذا إلى القصة المحورية في خطابه، والتي وصفها بأنها شخصية للغاية ورمزية لآلاف جرائم الحرب.
روى قصة رئيس جراحي عظام الأطفال في مستشفى ناصر، الذي اختطفته القوات الإسرائيلية من غرفة العمليات وتعرض لتعذيب لا يُوصف، كُسرت أصابع الطبيب واحدًا تلو الآخر في محاولة لإكراهه على اعتراف كاذب بانتمائه لحماس، وهو ما لم يُدلِ به قط. صُعق بالكهرباء، وعُرضت عليه صور مراقبة لزوجته وأطفاله، بما في ذلك لقطات من طائرة بدون طيار لمنزلهم، بينما هُدد بالاغتصاب والقتل. تعرض للضرب مرارًا وتكرارًا، وخاصةً عند محاولته الاتصال بمحاميه. رأى الدكتور بيرلماتر بنفسه أطراف أصابعه المهشمة، ووصف كيف أن الصدمة – النفسية والجسدية – قد تركته محطمًا تمامًا. وصف هذه التجربة بأنها تجسيد لآلاف جرائم الحرب، وانتهاك صارخ لاتفاقيات جنيف، وخاصةً لحماية العاملين في المجال الطبي.اولم يُلقِ الدكتور بيرلماتر باللوم على إسرائيل فحسب، بل على داعميها الغربيين، وخاصةً الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، مؤكدًا أن المسؤولية الحقيقية تقع على عاتق الحكومات التي تواصل دعم إسرائيل وتسليحها. وتحدث عن كيفية إرساله صورًا صادمة لأطفال قتلى ومحتضرين إلى عضو الكونجرس الأمريكي داريل عيسى، وكيف تم رفض لقائه ببرود، واختتم حديثه داعيًا إلى محاسبة الحكومات الغربية بشكل مباشر قائلًا “لم تُغير إسرائيل سلوكها منذ أربعينيات القرن الماضي… المشكلة الحقيقية تكمن في الحكومتين الأمريكية والبريطانية. ومن هنا يجب أن يبدأ التغيير”.
الدكتور زهير لهنا، جراح التوليد وأمراض النساء الفرنسي، بدأ كلمته بالحديث عن فترات عمله في غزة وزياراته المتكررة التي امتدت لأكثر من عشر سنوات، منها ثلاث زيارات في العام السابق وحده، مؤكدًا أن خبرته في مناطق الصراع في أفريقيا وسوريا واليمن وليبيا لا تُقارن بما شهده في غزة.
وأوضح أن عمله يشمل صحة المرأة والجراحة العامة، وخاصةً في حالات الطوارئ، إلا أن غزة قدمت واقعًا يفوق ما أعده له أي تدريب أو أزمة سابقة. ورغم إجرائه عمليات جراحية منقذة للحياة، أقر بأن العديد من الأرواح لا تزال تُفقد، وأن العديد من الناجين يعانون من بتر الأطراف بسبب نقص الظروف الجراحية والطبية المناسبة. وأكد أنه في ظل ظروف مختلفة، ومع توفر المرافق والموارد المناسبة، كان من الممكن إنقاذ العديد من هؤلاء المرضى. كانت معدلات الإصابة بعد العمليات الجراحية مُدمرة، مع انتشار تسمم الدم على نطاق واسع بسبب البيئات غير الصحية والاكتظاظ ونقص الإمدادات الطبية.
ثم واصل وصف الأثر النفسي للإبادة الجماعية على العاملين في المجال الطبي، بمن فيهم زملاؤه، لافتًا أن أحد زملائه الفرنسيين، الذي رافقه في ثلاث مهمات إلى غزة، رفض العودة بسبب الاكتئاب الشديد. واستجابةً لذلك، ينظمون الآن مسيرة تضامن مع غزة، مستوحاة من مسيرة كمبوديا وتايلاند عام 1980 التي نسقتها منظمة أطباء بلا حدود، بهدف كسر اللامبالاة العالمية. وأعرب الدكتور زهير عن أسفه لكيفية كشف هذه الحرب عن العقلية الاستعمارية السائدة في العديد من المجتمعات الغربية، حيث يُعامل الفلسطينيون – وخاصة المسلمون – على أنهم أقل استحقاقًا للتعاطف أو الحماية. وأدان الرواية التي تصف المقاومة بالإرهاب، وأشار إلى النفاق الصارخ للمنصات الإعلامية التي تبرر الوفيات والتجويع والدمار الذي يلحق بالمدنيين. ورسم صورة قاتمة للحياة اليومية في غزة: الناس قد تعيش 40 يومًا بدون طعام أو دواء، وجبة واحدة في اليوم، لا يمكن الحصول على اللحوم، والسلع الأساسية باهظة الثمن، وعالم يشاهد هذا يتكشف في صمت.
من خلال تخصصه الطبي، قدّم الدكتور زهير نظرةً ثاقبةً حول تأثير الحرب على النساء والمواليد الجدد، ووصف الوضع بأنه حربٌ مباشرة على النساء، حيث تُحرم النساء من كل خصوصية ودعم ورعاية طبية طوال فترة الحمل وبعد الولادة، مضيفًا أن خدمات ما قبل الولادة وما بعدها معدومة، مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات الإجهاض، وتسمم الحمل، والولادات المبكرة، ووفيات المواليد الجدد – بما في ذلك انخفاض حرارة الجسم، حيث تتعرض الأمهات والرضع لدرجات حرارة شديدة داخل خيام مؤقتة. وروى مشاهد لنساءٍ بدون الضروريات الأساسية مثل الفوط الصحية أو الملابس الداخلية، مما يشير إلى أن هذا المستوى من الحرمان ليس عرضيًا بل هو تكتيك متعمد لإجبار السكان على النزوح. واختتم الدكتور زهير بالتأكيد على أن هذا هو أول مثال حديث لسكان يواجهون الانهيار التام والحصار الكامل في آن واحد، مؤكداً أن تدمير نظام الرعاية الصحية في غزة – والذي يقدر بنحو 50% إلى 60% – هو جزء من هذا التطهير العرقي الممنهج.
الدكتورة تلالينغ موفوكينغ، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالحق في الصحة، بدأت مداخلتها ببيان قوي عبّرت خلاله عن التضامن الكلي مع غزة. ووصفت الوضع الراهن في غزة بأنه مظهر من مظاهر الإبادة الجماعية وفق تعريف القانون الدولي، وأدانت الموقف “المقيت” لنظام الاحتلال الإسرائيلي وحلفائه الدوليين. وأكدت أن غزة ليست أرضًا معادية بحاجة إلى التهدئة، بل هي أرض تتعرض للتهجير العنيف والطرد الممنهج، مما يُشكل واحدة من أطول أزمات اللاجئين والأزمات الإنسانية حتى قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. وأوضحت كيف منعت إسرائيل، منذ 2 مارس/آذار – وهو الموعد الذي كان مقررًا لبدء المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار – دخول جميع البضائع والمساعدات الإنسانية إلى غزة، بما في ذلك الوقود والإمدادات الطبية، وقطعت الوصول إلى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، الوكالة الأممية الرئيسية في فلسطين. وأكدت أن هذه الإجراءات أظهرت كيف تُدمر إسرائيل وحلفاؤها عمدًا أسس الحياة، وتتجاهل بشكل صارخ أحكام محكمة العدل الدولية.
شرحت الدكتورة موفوكينج بالتفصيل حجم الهجمات على القطاع الصحي في غزة، مشيرةً إلى أنه منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، كان هناك ما لا يقل عن 670 هجومًا موثقًا متعلقًا بالصحة، بما في ذلك أضرار لحقت بـ 122 منشأة صحية و33 مستشفى – وهو رقم ترى أنه لا يمثل الواقع، وأن الحقيقة أبشع بكثير. وتحدثت عن الاتصالات العاجلة التي أجرتها مع إسرائيل بشأن عرقلة الإمدادات الطبية، ورفض عمليات الإجلاء الطبي، واحتجاز وترهيب وتعذيب العاملين في مجال الرعاية الصحية، بمن فيهم أولئك الذين تم اعتقالهم أثناء علاج المرضى. وأكدت أنه تم العثور على العديد من هؤلاء العاملين لاحقًا ميتين، وتحمل أجسادهم علامات التعذيب. وأعربت عن إحباطها العميق إزاء الأدوات المحدودة المتاحة لخبراء الأمم المتحدة والتقاعس العالمي في مواجهة مثل هذه الانتهاكات واسعة النطاق. ومع ذلك، فقد وجدت الأمل في الجهود الجماعية مثل هذه الندوة، منددة بصمت المنظمات الصحية المهنية العالمية، ووصفته بأنه خيانة عميقة لمجتمع الرعاية الصحية. وأشارت إلى الغارة الجوية التي استهدفت مستشفى الأهلي في 13 أبريل/نيسان، والتي دمرت قسم الطوارئ فيه، باعتبارها واحدة من هجمات عديدة قلصت خيارات الرعاية الطارئة في غزة إلى ما يقارب الصفر، في حين تواصل إسرائيل عدوانها بإفلات تام من العقاب.
واختتمت الدكتورة موفوكينج كلمتها باستعراض الإجراءات القادمة في إطار ولايتها الأممية، معلنةً أنها ستقدم تقريرين في عام 2025 – أحدهما إلى مجلس حقوق الإنسان في يونيو/حزيران والآخر إلى الجمعية العامة في أكتوبر/تشرين الأول – يركزان على العاملين في مجال الرعاية الصحية كحماة للحق في الصحة. وشددت على ضرورة اعتماد مناهج مناهضة للعنصرية والاستعمار والإمبريالية في الدعوة إلى الصحة العالمية والممارسة الطبية، لا سيما في سياق الإبادة الجماعية والصراعات طويلة الأمد. ودعت إلى وقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار، مؤكدةً بحزم أن السلام لا يمكن أن يتحقق بدون تحرير وإنهاء للاحتلال. وأي عملية سلام مزعومة تستبعد الفلسطينيين وتبيدهم هي، في رأيها، عملية غير شرعية وغير مستدامة بطبيعتها. وطالبت بالإفراج عن جميع العاملين في مجال الرعاية الصحية المعتقلين، وخصت بالذكر الدكتور حسام أبو صفية، واختتمت كلمتها بما وصفته بـ”غضبٍ عارمٍ” إزاء الظلم المستمر. كما شكرت زملاءها المتحدثين والمشاركين، معترفةً بالقوة والتضامن الجماعيين اللذين يدعمان هذا النضال الحاسم من أجل العدالة والحق في الصحة في غزة.