عقدت المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا ندوة عبر الإنترنت بعنوان “فساد السلطة الفلسطينية يهدد العمل النقابي” حول التهديدات التي تواجه حرية العمل النقابي في فلسطين، وبحث السبل الممكنة لوقف ما يتعرض له منتسبي النقابات من قمع، وحرمان من حقوقهم المدنية.
الصحفي البريطاني جو هاينز أدار الندوة بحضور الأكاديمي الأمريكي والمحلل السياسي نورمان فينكلشتين، والمستشار القانوني الفلسطيني د. أنيس قاسم، وعضو نقابة المحاميين الفلسطينيين داوود درعاوي، وأستاذ الأنثروبولوجيا البروفوسير إيثان مورتون، وأُبي العبودي مدير مركز بيسان للبحوث والإنماء.
في كلمته تحدث البروفيسور إيثان مورتون عن تجربته مع العمال الفلسطينيين من خلال الفترة التي قضاها هناك في الأراضي المحتلة لإجراء بحث ميداني متعلق برسالة الدكتوراة الخاصة به إذ مكث هناك ثلاث سنوات.
وأوضح إيثان أنه أجرى محادثات عديدة مع مختلف أطياف وفئات العمال في فلسطين، سواء الذين عملوا في الأراضي المحتلة في الضفة الغربية، أو في المستوطنات أو داخل منطقة الخط الأخضر، وبالرغم من أنه لكل منطقة سلطة مختلفة لإدارتها فعليًا، فإن العمال جميعهم اشتركوا في مأساة واحدة وأن حقوقهم مهضومة ولا تختلف كثيرًا عن تلك التي كانت تحت حقبة الاستعمار البريطاني.
ولفت إيثان أن اتفاقية أوسلو ساهمت بشكل كبير إلى هضم حقوق العمال، مشيرًا أنها ساعدت السلطة الفلسطينية في إحكام قبضتها على عمل النقابات وقمعها مقابل الحصول على امتيازات مالية ودولية من أجل تمرير هذه الاتفاقية وضمان تنفيذها.
وأشار إيثان إلى الأدوار التاريخية التي لعبتها النقابات العمالية أثناء الانتفاضات وخاصة الانتفاضة الأولى، ولهذا كان قمعها أمر ضروري كي لا تقو الصف المناهض للاحتلال ولسياسات السلطة الفلسطينية المنخرطة في تنسيق أمني واضح مع قوات الاحتلال.
وأشار إيثان إلى أن قوانين العمل لم تدخل حيز التنفيذ حتى عام 2000، ولم يُشرع قانون الأجر حتى عام 2012، مضيفًا أنه بالرغم من ذلك فإن الأزمة الكبرى التي يعاني منها العمال الفلسطينيون هي أن السلطة لا تتبع القانون في التعامل معهم، لافتًا إلى القمع الذي تعرض له المعلمون أثناء إضرابهم عام 1997 واستدعاء عدد كبير منهم واعتقال بعضهم.
في كلمته، سلط عضو نقابة المحامين الفلسطينيين داوود درعاوي الضوء على التحديات التي تواجه العمل النقابي في فلسطين، موضحًا مراحل تطور العمل النقابي في فلسطين، والذي بدأ في عشرينيات القرن الماضي، ثم تطور ارتباطًا بالحالة التي تنتقص من سيادة الفلسطينيين على أرضهم مرورًا بحقبة الاستعمار البريطاني لفلسطين ثم الاحتلال الإسرائيلي وصولًا إلى تشكيل سلطة فلسطينية ثم المحطة الأخيرة وهي محطة الانقسام الفلسطيني.
ولفت درعاوي أن شكل العمل النقابي مع حرب 1967 كان في أغلبه عمل نضالي لمواجهة الاحتلال، مشيرًا أن قيادات العمل النقابي تعرضت لملاحقات واعتقال وتضييقات من قبل قوات الاحتلال، مضيفًا أنه مع تشكيل سلطة فلسطينية عام 1994 تغير عمل النقابات من عمل نضالي إلى عمل مطلبي يهتم بحقوق العمال وتحسين واقع المنتسبين لهذه النقابات وكذلك التشريعات التي تخص المواطن الفلسطيني.
وأوضح درعاوي أنه في ظل غياب التشريعات التي تنظم عمل النقابات سعت هذه الجهات إلى البحث عن أطر تشريعية لتنظيم عملها، لافتًا أن الاحتلال في أعقاب عام 1967 منع النشاط النقابي العلني.
وحول الحراك الأخير المتعلق بالمعلمين في فلسطين وغيرها من النقابات، قال درعاوي إن السبب الرئيس وراء ذلك يعود إلى تنصل الحكومة من اتفاقاتها الموقعة مع تلك النقابات، لافتًا أن هذه القضية شائكة لها سبب رئيسي وسبب ثانوي.
السبب الرئيسي هو سياسات الاحتلال في قرصنة أموال الشعب الفلسطيني التي يقتطعها من الواردات الضريبية على البضائع التي تمر عبر المعابر وهو انتهاك من سلطات الاحتلال للقانون الدولي الإنساني واتفاقية جنيف الرابعة، ما تسبب في أزمة مالية داخلية انعكست على مستوى الخدمات التي تُقدم للمواطنين وبالتالي الرواتب والأجور.
أما السبب الثانوي يتعلق بسوء الإدارة والفساد وحالة الاحتباس الديموقراطي وغياب التداول السلمي للسلطة والانقسام الذي غيب المجلس التشريعي الفلسطيني كجهة يمكن لها أن تلجم حالة التغول التي تقوم بها السلطة التنفيذية على باقي السلطات.
وأضاف درعاوي أن الحكومة القائمة لا تستمد الثقة من مجلس تشريعي، بل تستمدها من رئيس السلطة وبالتالي لا رقيب عليها ولا يستطيع أحد أن يلجم حالة تغولها، وبالتالي فإن الواقع النقابي اليوم في فلسطين هو واقع صعب خاصة وأنها تمارس الرقابة الشعبية على أداء السلطة التنفيذية وهذا يضاعف من حجم الأعباء الملقاة على النقابات العمالية والمهنية في فلسطين
المستشار الفلسطيني أنيس قاسم تحدث في كلمته عن الفساد المتفشي في السلطة الفلسطينية وجذوره التاريخية، مشيرًا أن الأمر بدأ في التفشي في أعقاب اتفاقية أوسلو عام 1994، لافتًا أن موافقة السلطة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات آنذاك على بنود الاتفاقية منحهم حماية دولية لممارسة الفساد المستمر حتى الآن مع ضمان حصولهم على المساعدات والمعونات دون محاسبة أو تدقيق.
وأوضح أنيس أن اتفاقية أوسلو هي في الواقع “اتفاقية استسلام” تنازلت فيها السلطة الفلسطينية عن حقوق الفلسطينيين مع حماية حقوق الإسرائيليين والمجتمع اليهودي في الأراضي المحتلة، ولضمان تنفيذ ذلك قمعت السلطة الفلسطينية أي محاولات لمعارضة هذه الاتفاقية وهاجمت حماس التي عارضت الاتفاقية آنذاك وقُتل 17 شخصًا على الأقل، في المقابل حصل عرفات على ضمان عدم التحقيق في منافذ إنفاق الميزانيات العمومية ومساعدات الدول المانحة، والتي راحت معظمها للأجهزة الأمنية إذ تحصل تلك الأجهزة على حوالي 58٪ من قيمة الميزانية.
ولفت أنيس أنه منذ ذلك الحين أصبح الفساد ظاهرة مستمرة ومتفشية داخل السلطة الفلسطينية، مشيرًا إلى أنه عام 1998 صدر تقرير عن المجلس التشريعي حدد أسماء شخصيات وجهات متورطة في قضايا فساد، لكن حتى اللحظة لم يُتخذ ضدهم أي إجراء، بالطبع مع ضمان عدم خضوع هذه الجهات لأي مساءلة دولية فيما إذا كانت هذه الأموال يُساء استخدامها.
في كلمته، سلط الأكاديمي الأمريكي نورمان فينكلشتين الضوء على الوضع العام في فلسطين وتأثير السياسات الإسرائيلية على واقع الحياة اليومية للشعب الفلسطيني.
ولفت نورمان إلى أن اتجاه إسرائيل نحو التيار اليميني المتطرف أكثر من أي وقت مضى سواء على المستوى الحكومي أو القضائي مع تمكين المستوطنين من الاعتداء على المواطنين الفلسطينيين ساهم بشكل كبير في التأثير سلبًا على حياة الفلسطينيين، خاصة مع اختفاء أي وجود لليسار.
وأضاف نورمان أن أجندة إسرائيل الحالية هي أجندة دينية بامتياز، لا مكان فيها لليبرالية أو العلمانية، الذين كانوا بشكل أو بآخر أخف وطأة في تعاملهم مع الشعب الفلسطيني.
بالرغم من ذلك، أكد نورمان أن الليبراليين والعلمانيين حين كانوا في الحكومة الإسرائيلية مثل عهد باراك لم يكونوا رحيمين بالفلسطينيين، بل شرعن القضاء الإسرائيلي في عهد باراك تعذيب الفلسطينيين والاعتداء عليهم وانتهاك حقوقهم، لافتًا أن الوضع الحالي أشد مأساوية على الفلسطينيين في ظل وجود حكومة يمنية متطرفة تدعم العنف.
في ختام الندوة تحدث الناشط الفلسطيني أُبي العبودي -مدير مركز بيسان للبحوث والإنماء- عن تدخلات السلطة الفلسطينية في عمل النقابات العمالية، ومحاولتها السيطرة عليها وتوجيه عملها لخدمة مصالحها.
كما تحدث العبودي عن الميزانية الضخمة التي تُقتطع من الموازنة العامة وتذهب إلى العاملين في السلطة الفلسطينية وخاصة قطاع الأمن الذين يضم أكثر من 50 ألف شخصًا، و85 ألف من العاملين في السلطة نفسها، مشيرًا إلى السلطة الفلسطينية تتعامل مع الشعب الفلسطيني بقبضة أمنية مشددة لذلك تذهب معظم الميزانية إلى القطاعات الأمنية.
ولفت العبودي إلى طريقة أخرى تستغل بها السلطة الفلسطينية عمل النقابات وتحاول من خلالها التضييق على النقابيين، وذلك عبر تحصيل رسوم الاشتراك والضرائب من أعضاء تلك النقابات، وفي المقابل لا تسمح لهم بممارسة عملهم بحرية وفي أجواء ديموقراطية.
كما تحدث العبودي عن حراك المعلمين المستمر منذ أكثر من 23 عامًا، حاول المعلمون خلالها النضال من أجل تحسين أوضاعهم وضمان استقلالية العمل النقابي، لكن السلطة في المقابل كانت تلاحق وتسجن قيادات هذه الحراكات المستمرة حتى الآن.
واختتم العبودي كلمته بالتأكيد على أن الشعب الفلسطيني ضاق ذرعًا بالفساد المتفشي بين السياسيين الذين يشغلون مناصب في السلطة ويمارسون الفساد دون محاسبة أو مساءلة، خاصة مع زيادة الضرائب التي تُجمع من المواطنين العاديين، والتي تشكل 80٪ من ميزانية السلطة الفلسطينية التي سبق وأشار أن معظمها يذهب لقطاع الأمن.