في مخيم الزعتري، وبمحاذاة أسوار مقر المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، شدّ انتباهنا صوت بكاء الطفل قيصر الحمصي ذي السبعة أعوام، ولما سألناه عن سبب بكائه؛ أجابت شقيقته سوزان (11 عاماً) بأنه رأى أطفالاً يلعبون بالكرة، فأخذ بالبكاء لأنه لا يملك كرة مثلهم، “ولا نملك ثمنها”.
سوزان التي أخذت تمسح دموع شقيقها المختلطة بآثار أتربة المخيم البادية على وجهه، في حركة ذكية فهمنا منها أنها تحاول إخفاء وجهه عن الكاميرا؛ قالت إنها ووالديها وشقيقيها قيصر وسجى؛ قدموا إلى المخيم منذ ثلاثة أشهر، مشيرة إلى أن والدتها أنجبت مولوداً جديداً “قبل شهر”.
ككثير من العائلات التي تقطن المخيم؛ تعرّض منزل العائلة في حمص إلى قصف طائرات النظام، وأصيب والد سوزان إصابة بالغة أقعدته عن العمل، فكان مخيم الزعتري هو الملاذ الآمن في نظره.. حمل أمتعته، وسار بأهله لينتقل من معاناة إلى أخرى، لكن أشكالها تختلف.
تقول سوزان بنبرة ملؤها الأسى والحرمان: “نعيش على الكوبونات التي توزعها المعونة (مصطلح يطلقه اللاجئون على مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين)، وهي لا تكفي، ولم نرَ أية تبرعات أخرى”.
“منير عيسى” يلخص المأساة
عائلة سوزان ليست وحدها التي تعاني، فكل لاجئ في مخيم الزعتري يحمل قصة معاناة يتوق إلى إسماعها لضمائر البشر، ويكفي مجرد الإحساس بأنك لاجئ؛ لينغص عليك عيشك، كما يقول منير عيسى (40 عاماً).
“كان عندي في درعا مطعم كلفته سبعة ملايين ليرة سورية، وكذا منزل جميل تسكن فيه أسرة هانئة، ولكن قصف طائرات الأسد لم تبقِ منهما شيئاً”، بهذه العبارة بدأ منير عيسى حديثه لنا.
وتابع: “بعد أن طال القصف المطعم الذي أعتاش منه بأيام؛ عرّج على منزلي، فكان أن توفيت والدتي وزوجتي وابني وابنتي، ونجوت أنا بإصابة بالغة في قدمي، ولمّا لم يتبق لي شيء في سوريا؛ ولّيت وجهي شطر مخيم الزعتري”.
يعيش منير عيسى في مخيم الزعتري منذ حوالي سنتين، داخل مبنىً أُعدَّ ليكون مطبخاً، هو عبارة عن لبنات مرصوصة من جميع الجهات، جُعل فيها فتحة بقدر باب، لكن الباب غير موجود، فتدخل من الفتحة الرياح الباردة في الشتاء، والغبار الشديد في الصيف.
وإذا جنّ الليل؛ فإن سواده يمتد إلى داخل المبنى الذي يستظل به عيسى، حيث إنه يفتقر إلى الكهرباء، يقول: “إذا جاء الليل؛ لزمتُ فراشي، وأخذت أتذكر أسرتي التي فقدتها، وأقارن نفسي حين كنت أجلس في مطعمي أصدر الأوامر للموظفين، أما اليوم فلا أجد ثمن ساندويشة فلافل”.
فيما يخص طعامه اليومي؛ قال عيسى إن جيرانه يشفقون عليه، فيمدّونه بما تيسر، إذ إن الكوبونات التي توزعها “المفوضية” لا تكفيه، يقول: “كل ما آخذه من المعونة هو كوبون بقيمة 10 دنانير كل 15 يوماً، وهذا بالطبع لا يكاد يكفيني سوى يومين أو ثلاثة”.
وأشار إلى كيس من الخبز وقال: “أسكت جوعي بهذا الخبز الذي لا أجد شيئاً آكله معه”.
أما دورات المياه؛ فهي تبعد عن مسكنه عشرات الأمتار؛ الأمر الذي يُدخله في معاناة يومية كلما أراد أن يقضي حاجته، لأنه يمشي بصعوبة بسبب قدمه المصابة.
وحينما سألناه عن الوضع في “الزعتري” بشكل عام؛ لخّص عيسى إجابته بالقول: “هون بدون مصاري ما بتعيش” (هنا بلا أموال لا تستطيع العيش).
نبذة تعريفية
المفرق (75 كم شمال شرق عمان)، ولكنها مع إقامة أكبر مخيم للاجئين السوريين الذين توافدوا على البلاد منذ شهر تموز من عام 2012 بلغت شهرتها الآفاق.
أقيم مخيم الزعتري على أرض مساحتها 8 كيلومترات، امتلأت باللاجئين البالغ عددهم 100 ألف سوري، بحسب تصريح بتاريخ 17/4/2014 لمدير التعاون والعلاقات الدولية في المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في الأردن علي بيبي.
يسكن حوالي 70 بالمئة من اللاجئين في حوالي 18500 كرافان، أنشئت على عدة مراحل، ويقطن بقية اللاجئين في الخيام.
يعد “الزعتري” ثالث مخيم في العالم من حيث سعته للاجئين، كما أنه ينافس على احتلال الموقع الخامس من حيث عدد السكان بين المدن الأردنية.
بعد سنة من إنشائه؛ شهد مخيم الزعتري افتتاح أسواق تجارية أنشأها لاجئون سوريون باستخدام مواد أولية، مثل الأخشاب والكراتين والبلاستيك وبقايا أثاث، بالإضافة إلى وجود “مولات” للتسوق يمتلكها أردنيون.
وبين فينة وأخرى؛ تقع أعمال عنف واحتجاجات واشتباكات بين اللاجئين والأمن الأردني، على خلفيات متعددة، يتبادل فيها الطرفان الاتهامات، وربما وقع قتلى وجرحى واعتقالات.
إشكالية الموقع
عند تجوالك في مخيم الزعتري؛ توقع أن تعمّ المكان عاصفة رملية، تصبغ لون بدلتك الكحلية لتصبح بلون الرمال، وبعد أن تهدأ العاصفة؛ يعيد اللاجئون الذين سقطت خيامهم بفعل الرياح بناءها مرة أخرى، تماماً كما يفعلون الأمر نفسه حينما تسقط عليها الثلوج الكثيفة في فصل الشتاء.
إشكالية المكان اعترف بها وزير الخارجية الأردني في حوار مع صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 19/8/2012 فقال: “كنا نعلم أن إقامة هذا المخيم خطوة جريئة لن تكون من دون مصاعب، وأنه ستكون هناك ظروف سيئة.. هذه ليست بيئة ملائمة مع كل هذا الغبار والريح”.
الأمر ذاته أقر به ممثل مفوضية الأمم المتحدة للاجئين آندرو هاربر في حوار مع صحيفة الغد بتاريخ 1/8/2012 حيث قال: “يصعب العمل في هذا الموقع بسبب الغبار والحر… لا أرغب برؤية أسرتي هناك”.
وأضاف في تصريحات صحفية بتاريخ 4/8/2012: “اللاجئون لا يشتكون من الخدمات المقدمة لهم، بل من موقع المخيم، لا سيما وأنه في منطقة صحراوية، مثيرة للغبار، كما أن الجو حار جداً ومغبر كثيراً”.
الموقع السيئ دفع مجموعة من الشباب الأردني إلى إطلاق حملة شعبية تطالب بنقل المخيم إلى موقع يصلح للعيش البشري، على حد تعبيرهم، يقول محمود الكيلاني، أحد مؤسسي الحملة: “في مطلع آب من عام 2012 أطلقت حملة وتعاونوا الأردنية التطوعية نداءها (معاً لإغلاق مخيم الزعتري ونقله لموقع يصلح للعيش البشري) بعد زيارات متتالية لموقع المخيم ومعاينة ظروفه الصحراوية القاسية، ولمس معاناة الإخوة السوريين المقيمين فيه من حر الصيف وبرد الشتاء، وتطاير الأتربة بشكل يجعل العيش مستحيلاً، فضلا عن ازدحام الخيام، وعدم توفر مرافق خدمية، وكثرة العقارب والحشرات السامة، ووجود المخيم في محافظة المفرق التي تعاني من 11 جيب فقر أساساً”.
ويتابع: “حينما رأينا أن التحسينات التي تحاول الحكومة الأردنية ومفوضية شؤون اللاجئين لا تعدو أن تكون عبارة عن عمليات تجميل فاشلة؛ أخذنا على عاتقنا تنظيم عدة فعاليات تطالب بنقل المخيم إلى موقع أفضل”.
أقامت الحملة بالتعاون مع الهيئة الأردنية لنصرة الشعب السوري 3 وقفات احتجاجية شهدتها أغلب الوسائل الإعلامية الهامة عربياً ودولياً، بدأتها بوقفة أمام المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، فمجمع النقابات الأردنية، ثم أمام مقر الأمم المتحدة، وقدمت رسائلها الاحتجاجية للمسؤولين، فيما أجرى القائمون على الحملة عدة مقابلات صحفية وتلفزيونية، بحيث ساهمت الحملة بالتعاون مع فعاليات أخرى مساهمة كبيرة بالضغط لتحسين أوضاع المخيم بسرعة أكبر، وهو أقل أهدافها المرجوة.
ولكن الكيلاني يشير إلى أن عدم التفاعل الشعبي المطلوب؛ آل بالحملة منذ ستة أشهر إلى أن تصبح محصورة في صفحة “فيسبوكية” يتفاعل معها “أصحاب الضمائر الحية، والمهتمون بحقوق الإنسان” على حد قوله.
محاولات التحسين
28/7/2012.. في هذا التاريخ تم نقل أول فوج من اللاجئين السوريين إلى مخيم الزعتري، ويومها صرّح وزير الداخلية الأردني غالب الزعبي بأن عدد الخيم في المخيم عند الافتتاح بلغ ألفي خيمة، “تم تزويدها بكافة التجهيزات، لا سيما الكهرباء والماء والمرافق الصحية”.
بيد أن وسائل الإعلام المحلية والعربية والعالمية؛ كشفت أن الواقع على خلاف ذلك، حيث لم يتم تمديد الكهرباء للمخيم إلا بعد سنة من افتتاحه، أما الماء فكان شحيحاً للغاية، وأما المرافق الصحية؛ فقد نقلت صحيفة “الغد” الأردنية عن مصدر إغاثي بعد شهر من تصريح وزير الداخلية؛ أن خدمات المرافق الصحية في المخيم “بالغة السوء، ما يضطرهم إلى قضاء حوائجهم الطبيعية في الخلاء”.
وأضاف المصدر الذي فضّل عدم ذكر اسمه، أن “كل 150 لاجئاً سورياً يشتركون في دورة مياه واحدة، ما يؤدي إلى إصابتهم بالإسهال وأمراض أخرى”.
بالتعاون مع العديد من الهيئات الإنسانية والجمعيات الخيرية في الداخل والخارج؛ سعت السلطات الأردنية لتحسين الخدمات المقدمة لقاطني مخيم الزعتري، بما في ذلك التخفيف من سلبيات الموقع “الصحراوي”، فكيف هو الوضع الآن؟
ماء شحيح.. وطعام لا يكفي
“لا يوجد أماكن مخصصة للشرب، والمياه هنا شحيحة، فخزان الماء الموجود في مربعنا يعبَّأ مرة واحدة فقط في اليوم” يقول سعيد الدرعاوي وعلامات السخط بادية على وجهه.
ويضيف: “كثيراً ما تريد أن تغسل وجهك؛ فلا تجد ماءً.. وهناك مناطق في المخيم لا يوجد فيها مياه بالمرة”.
سليم أحمد من الغوطة؛ أخذنا إلى طابور من اللاجئين الذين ينتظرون دورهم ليملأ لهم لاجئ أربعيني “جالوناً” بالماء.. حاولنا التصوير؛ فقال مغضباً: “لا تصور.. لا تصور”، فاعتذرنا له ومضينا بالكاميرا التي اختلست الصورة قبل أن يعترض معترض.
وفي مكان آخر؛ وجدنا الجالونات مصفوفة تنتظر وحدها أمام خزان الماء، الذي يعبث بـ”حنفيته” طفل صغير، يحاول أن يظفر ببعض القطرات ليطفئ بها شيئاً من عطشه.
يقول أحمد: “كانوا يملأون خزان الماء 4 مرات في اليوم، لكنهم منذ 5 أيام لا يملأونه إلا مرتين في اليوم.. لو أتيتم قبل ذلك الحين لما رأيتم هذه الطوابير”.
ويضيف: “حينما تأتي المياه؛ إذا لم يوجد رجل يتميز بشخصية قوية ليرتب الدور؛ فإن المشاكل تدب بين اللاجئين أيهم يظفر بالماء أولاً، فالكل يخشى أن ينفد الماء قبل أن يأتي دوره”.
سألنا أحدهم – ورفض أن يذكر اسمه – عن طعم الماء، فقال: “طعم الكلور الموجود في الماء بغرض التعقيم لا يُطاق.. بعض اللاجئين يضطرون إلى شراء مياه الشرب، لكن الغالبية العظمى منهم يوفّرون ثمنها لشراء ما هو أهم”.
وأثناء حديثنا معه تحت أشعة الشمس اللاهبة؛ ذكر لنا أن قريباً له قدم من سوريا إلى المخيم منذ خمسة أيام، “وحينما شرب من الماء أخذ يشكو من ألم في بطنه، فقلنا له: تحمّل هذا الماء في الأيام الأولى، وبعد ذلك ستعتاده”.
أما الطعام؛ فيشتري اللاجئون السوريون طعامهم بأنفسهم؛ بعد أن كانت الهيئة الخيرية الهاشمية توزع عليهم وجبات طعام يومية، يقول باسم الحلبي (38 عاماً): “كنا نعاني في الأول من عدم التنويع في الوجبات التي كانت توزع علينا يومياً، حتى مللنا الغذاء اليومي المتمثل بالرز والدجاج، لكننا معاناتنا بالأمس تهون عن الوضع الحالي”.
يوضح الحلبي مقصوده: “اليوم يوزعون علينا كوبونات بقيمة 10 دنانير للفرد الواحد بواقع 15 يوماً، وهذا المبلغ لا يكفي، خصوصاً مع ارتفاع الأسعار داخل المخيم”.
يمسح الحلبي على رأس طفله ذي الشعر الأشقر، يتنهد ثم يقول: “يا ليتنا نعود إلى أيام الرز والدجاج”.
الكهرباء تنقطع وتصعق
زيارتنا لمخيم الزعتري كانت نهارية، فلم نشعر بمعاناة اللاجئين هناك من انقطاع الكهرباء بشكل يومي.
يوصّف عبدالله الزعبي هذه المعاناة فيقول: “الكهرباء في النهار لا تنقطع، ولكن تغيب يومياً مع غروب الشمس لمدة ساعتين أو ثلاثة”.
وعن سبب هذا الانقطاع المسائي؛ يقول الزعبي: “المربعان العُماني والسعودي للمخيم؛ يأخذان الكهرباء من مربعنا الكويتي، الأمر الذي يؤدي إلى حدوث ضغط كبير يؤدي إلى فصل التيار الكهربائي”.
في المربعان العُماني والسعودي تمديدات كهربائية جاهزة منذ سبعة شهور، بحسب الزعبي، الأمر الذي أثار تساؤله عن عدم إيصال التيار الكهربائي لها.
المفاجأة التي لم نتوقعها بعد ما يقرب عن 3 سنوات من قيام المخيم؛ هي قول الزعبي: “70 بالمئة من الكرفانات والخيم لا تصلها الكهرباء، وهذا يعني أنْ لا مراوح في هذا الصيف الحارق”.
هناك مشكلة أخرى خطيرة متعلقة بموضوع الكهرباء؛ يقول عمر الدمشقي: “في فصل الشتاء من العام الماضي؛ داس أحد الأطفال على شريط كهربائي أعزل، فصُعق ومات”.
يضيف: “الصعق بالكهرباء يقع كثيراً، وسعيد الحظ؛ هو من ينجو حينئذ من الموت”.
بين الخيم والكرفانات
وصلنا إلى الشاب عمار المسالمة وهو يضع اللمسات الأخيرة على خيمته التي أعاد تشييدها من جديد.. سألناه عن ذلك فأجاب:
“العاصفة الرملية أوقعت خيمتي فوق رؤوس من فيها، وأنا أعيد بناءها، ولعلها لا تصمد كثيراً”.
“كيف يكون الوضع في الشتاء؟”، تساؤل طرحناه على المسالمة فقال: “إذا كان المطر غزيراً، فإن المياه تحل ضيفاً ثقيلاً علينا، فتبلل الفراش والملابس وكل شيء، أما الثلوج فإذا لم أقم بإزالتها من فوق الخيمة أولاً بأول؛ فإنها تسوّيها بالأرض”.
“الخيمة تقيك من ضوء الشمس” يقول المسالمة، ويستدرك: “لكن الحرارة هي هي.. اجلس في الخيمة 10 دقائق ستخرج مبللاً بالعرق”.
تشكل الخيم التي توزعها “الأونروا” 30 بالمئة من مخيم الزعتري، أما البقية فعبارة عن كرفانات يؤكد أصحابها أنها أيضاً شديدة الحرارة.
أم محمد.. اكتفت بأن تعرف نفسها بذلك، تقول: “كما ترون؛ مع أن الجو حار جداً؛ إلا أننا نجلس في خارج الكرفان؛ لأنه أشد حراً”.
توقعنا أن يكون الأمر أحسن حالاً في الشتاء، ولكن أم محمد أصرت على أن ندخل الكرفان لترينا الثقوب الموجودة في سقفه، والتي تخترقها مياه الأمطار، لتنزل على رؤوس أطفالها، وتسبب لهم الأمراض.
تقول: “بين الصيف والشتاء؛ لا تتوقف المعاناة، ولكن أشكالها تختلف”، ثم أشارت إلى مدفئة تعمل على الغاز وتابعت: “سلمونا هذه المدفئة بلا جرة غاز”.
في فصل الشتاء الذي انتهى عن قريب؛ اكتفت أم محمد وزوجها وأولادها الثلاثة؛ بالجلوس أمام المدفئة والنظر إليها وهي مطفأة، لعلّ تخيّل النار وهي مشتعلة فيها يمنحهم قبساً من الدفء “ولو من الناحية النفسية” كما تقول.
وتتساءل: “أسطوانة الغاز تُباع في عمّان بـ 55 ديناراً، أما في مخيم الزعتري فثمنها 75 ديناراً، فمن أين نأتي بهذا المبلغ”.
استغلال “رخيص”
وكالات أنباء عدة تحدثت عن تزويج عائلات تقطن “الزعتري” بناتهن القاصرات لرجال كبار في السن؛ بهدف الحصول على مهر ينتشل العائلة من الفقر الذي تعاني منه.
سألنا إبراهيم اللبابيدي عن هذا الأمر، فقال لنا إنه لم يقف على حالات معينة؛ إلا أن خطيب الجمعة حذر في خطبته الأسبوع الماضي؛ من “دايات يسعين إلى بيع الأعراض” على حد تعبيره.
“ما المقصود ببيع الأعراض؟”، سألنا اللبابيدي فأجاب: “تتوسط امرأة خبيثة لدى إحدى العائلات الفقيرة، وتقنعها بأن تزوج ابنتها القاصرة لرجل سعودي مثلاً، مقابل مهر مجزٍ، وتقبض هي من الطرفين، ثم بعد شهر أو شهرين يُرجع السعودي البنت مطلقةً إلى ذويها”.
يضيف اللبابيدي والغضب يتملكه: “في الغالب؛ الدايات يعملن في الخارج، وخسيسو النفس من داخل المخيم يعرفونهن وينسقون معهن هذه الزيجات ليقبضوا منهن بعض الدنانير”.
حاولنا الوصول إلى خطيب المسجد؛ فلم نفلح، سألنا العديد عن هذا الأمر؛ فكان أكثرهم ينكرون ذلك، أما (م. ت) الذي رفض أن يذكر اسمه؛ فقد صرّح لنا بأنّ جاراً له في المخيم؛ زوّج ابنته ذات الأربعة عشر عاماً من كويتي يبلغ 60 سنة”.
ويضيف: “هناك عائلات كثيرة فقيرة جداً؛ لا تملك قوت يومها، تضطر إلى تزويج بناتها الصغيرات من أردنيين أو خليجيين، والهدف هو المهر الذي يقبضه ولي الضحية” على حد قوله.
أدار (م. ت) وجهه عنا وكأنه يريد إخفاء دموعه أو حنقاً يصبغ وجهه بالحمرة، ثم قال: “إنها المذلة بكل ما تعنيه الكلمة، والخنوع المقيت لاستغلال رخيص”.
أما منير عيسى، الذي سردنا جانباً من قصته في أول التقرير؛ فقد حدثنا عن صورة أخرى من صور الاستغلال، يقول: “يعرض علينا بعض الأردنيين أن نبيعهم بعض المواد التموينية بسعر أقل من السوق، ومع حاجتك الملحّة أحياناً للسيولة النقدية؛ تضطر إلى ذلك”.
يضيف: “أنا مثلاً بعت عدداً من علب السردين التي تصل قيمتها إلى ستة دنانير، بدينارين اثنين فقط”.
أبو محمد الدرعاوي (30 عاماً) يملك صالون حلاقة، ويحتاج إلى شراء مواد لمحلّه، يقول: “أوصي أناساً أردنيين لإحضار تلك المواد، فيرفعون عليّ سعرها مقابل إحضارها”.
ويضيف: “تجار الجملة الأردنيون يبيعون أصحاب المحال داخل المخيم بسعر المفرّق”.
أما مصطفى زين الدين؛ فيقول إن هناك استغلالاً للاجئين فيما يتعلق بأسعار المواد التموينية في المولات التي يملكها أردنيون، “فمثلاً علبة دبس التمر تباع داخل المول بدينارين ونصف، مع أنها تباع في الخارج بدينار ونصف فقط”.
ويتابع: “أذكر أن لجنة مراقبة أوروبية حضرت إلى أحد المولات، فأوقفتها وقلت لأفرادها: الأسعار هنا عالية جداً، فوعدوا بأن يأخذوا كلامي بعين الاعتبار، ولكن لم يتغير شيء.. الأسعار ما زالت مرتفعة”.
في مخيم الزعتري؛ سيارات نقل من نوع (بك أب) تنقل اللاجئين من مكان لآخر، بعضها خاص يحتاج أصحابها إلى ترخيص شهري من إدارة المخيم، وبعضها تابع لشركة نرويجية تدفع لأصحاب السيارات 20 ديناراً مكافأةً يومية.
محمد جميل (38 عاماً) يتهم بعض أصحاب السيارات باستغلال حاجة اللاجئين، يقول: “احتجت مرةً للانتقال بعائلتي مسافة 300 متر، فطلب مني سائق السيارة التي استقللتها دينارين، مع أنها مسافة قصيرة جداً، ولا تستحق حتى نصف هذا المبلغ”.
ولكنه يستدرك: “السيارات التابعة للشركة النرويجية لا تتقاضى شيئاً، وإنما يكتفي أصحابها بمكافأة الشركة”.
في طريقنا لمغادرة المخيم؛ ركبنا في إحدى السيارات التابعة للشركة النرويجية، وقطع بنا مسافة لا تتجاوز 300 متر، فكانت المفاجأة عند الوصول إلى نقطة النهاية أن طلب سائقها منا أجرة مقدارها ديناران!
بين الأمن والخوف
“اختناقنا بقنابل الغاز التي تقذفها قوات الأمن الأردنية؛ تذكرنا بالقنابل التي كانت تقذفها علينا القوات النظامية السورية”، يقول (ن. ع) الذي تحفظ على ذكر اسمه.
ويضيف: “كلما وقعت مشكلة بين أحد الأشخاص والدرك الأردني، واحتج بعض اللاجئين على سوء معاملة الدرك الأردني لهم؛ عمّ الغاز المكان، وعوقب الجميع بجريرة شخص واحد، أو بضع أشخاص”.
ولكن (ن. ع) يشير إلى أن ما حصل في تاريخ ، 6/4/2014 كان مختلفاً تماماً، حيث “تدخلت قوات البادية الخاصة، وأطلقت الغاز المسيل للدموع في كل الاتجاهات، وقام بعض أفرادها بإحراق خيام للاجئين”.
في ذلك الحين؛ نفى بيان للأمن الأردني وقوع قتلى في هذه الأحداث، مشيراً إلى إصابة 3 لاجئين، و47 عنصراً من قوات الدرك ورجال الشرطة، بينما اعترف مدير إدارة مخيمات اللاجئين بالأردن العميد وضاح الحمود، في مؤتمر صحفي، بمقتل اللاجئ خالد أحمد النمري (25 عاماً) إثر إصابته برصاصة بـ”الظهر”، على حد قوله، وأظهرت فيديوهات نُشرت على موقع “يوتيوب” لاجئين سوريين يحملون النمري والدماء تسيل منه وتملأ ثيابه.
بيان الأمن العام نفى أن يكون أحد عناصره قد أطلق الرصاص، مؤكداً أن “مجموعة من اللاجئين السوريين داخل مخيم الزعتري قامت بأعمال شغب ومحاولة الاعتداء على مقار الجهات الأمنية داخل المخيم، إضافة الى الاعتداء على الممتلكات، احتجاجا على ضبط أشخاص خرجوا إلى خارج المخيم بطرق غير قانونية”.
وأضاف البيان أن من وصفهم بمثيري الشغب “قاموا أيضاً بإشعال ست خيم وكرافانين تم إطفاؤها، ولم ينتج عنها أية إصابات تذكر”.
وفي اليوم التالي؛ كشف الحمود عن اعتقال 10 أشخاص “يشتبه بتورطهم بإثارة أعمال الشغب” كما قال.
لسماع الرواية الأخرى؛ التقينا بأحد أقارب القتيل السوري، والذي طلب منا أن نعرّفه بـ”أبو همام الغوطي” مع عدم الإشارة إلى طبيعة صلة القرابة بينه وبين الضحية، لـ”حساسية الأوضاع” على حد تعبيره.
قال أبو همام إن مجموعة من “البنات” اللواتي لا يحملن “هوية أمنية” تمكنهن من مغادرة المخيم بطريقة نظامية؛ يبتعدن يومياً عن الحاجز الأمني المخصص لتدقيق الهويات، ليخرجن من المخيم بعيداً عن أنظار رجال الأمن، بعد اجتيازهنَّ ساتراً ترابياً، بهدف العمل عند بعض الأردنيين “لتحصيل لقمة العيش”.
“وحينما يرجعن إلى المخيم؛ يقوم رجال الأمن بلفت أنظارهن إلى أن ما يقمن به أمر ممنوع، ولكنهنّ لا يأبهنَ بذلك؛ بسبب قلة ذات اليد، وقساوة الظروف داخل المخيم، التي تضطرهن للعمل في الخارج”.
“في مساء ذلك اليوم المشؤوم؛ أمسكت قوات الدرك بالبنات السوريات اللواتي يبلغ عددهن 12 وقامت باحتجازهن في المركز الأمني”.
“وصل الخبر إلى أهالي البنات، فخرجوا لإحضارهن، لكن الدرك الأردني قال لهم إنهنّ محتجزات للتحقيق معهن، وغداً سيتم إطلاق سراحهن”.
“غضب الأهالي من تصرف الدرك، وقالوا لهم إنه لا يصح أن تبيت البنات بعيداً عن أهاليهن، ويجب أن تسلمونا إياهن الآن”.
“وقعت مشادات كلامية بين الأهالي والدرك، فثارت الحمية في الشباب السوريين بسبب احتجاز البنات، وارتفعت الأصوات تطالب بإطلاق سراحهن، وتتساءل: أليس عندكم شرف وأخلاق حتى تقوموا باعتقال البنات وتبييتهن عندكم؟”.
“وحذر الأهالي الدرك إنْ لم يسلموا البنات؛ فإنهم سيحتجون بإلقاء الحجارة عليهم، بيد أن قوات الدرك لم تلتفت إلى هذه التحذيرات، وبدأت بتحميل البنات في سيارات لنقلهن إلى مكان آخر”.
“حينما رأى الأهالي مشهد تحميل البنات؛ بدأوا بإلقاء الحجارة، وبعضهم حمل العصي وهجم على قوات الدرك التي انشغلت برد الهجوم، الأمر الذي أتاح الفرصة للبنات للفرار من قبضة الدرك”.
“أثناء الاشتباك؛ أصيب ضابط بحجر في رأسه أسال دمه، فما كان منه إلا أن سحب مسدسه وأطلق الرصاص، ولكن رصاصاته لم تُصب أحداً، الأمر الذي دفع عسكرياً كان يقف بجوار الضابط؛ إلى فتح سلاحه الأوتوماتيكي على الأهالي، فأصيب (خالد) وثلاثة آخرون”.
“اشتعل المشهد مع لون الدماء، فتدخلت قوات البادية الأردنية، وأخذت تطلق الغاز المسيل للدموع، فاختنقت بنت صغيرة تبلغ من العمر 11 عاماً وفارقت الحياة”.
“أحد العسكريين حمل رشاشه الآلي وهمّ بإطلاق الرصاص، بيد أن ضابطاً أردنياً صفعه على وجهه وأخذ سلاحه منه، ولولا هذا الضابط لقُتل منا العشرات في هذه الحادثة”.
“بعدها تمكن الأهالي من حمل خالد والانسحاب به وقد خضبته الدماء، بينما انسحب أفراد الدرك والبادية بسياراتهم التي تمكن اللاجئون من إحراق إحداها، في الوقت الذي قام بعض العساكر بمطاردة اللاجئين المنسحبين، وأثناء هذه المطاردة قام بعض أفراد قوات البادية بإحراق ما يقرب من 12 خيمة”.
“أغلق الدرك الأردني المشفى الكويتي، والمشفى السعودي؛ ليضطر الأهالي إلى حمل المصاب إلى المشفى المغربي القريب من تمركز قوات الدرك، حيث تمكنت هذه القوات من الإحاطة بالمشفى والدخول إليه”.
“قام بعض أفراد الدرك بإطلاق الرصاص من أسلحتهم الآلية داخل المشفى، واعتقلوا مرافقي الجريح خالد الذي ما زال حينها على قيد الحياة، وقاموا باختطافه ونقله إلى مستشفى المفرق الحكومي، محذرين الأطباء من إخراج أية معلومات حول ما جرى”.
“في صباح اليوم التالي؛ علمنا أن (خالداً) قد فارق الحياة مع شروق شمس ذلك اليوم”.
ختامها “شمس”
في طريقنا لمغادرة “الزعتري”؛ استوقفتنا عبارة مكتوبة على إحدى الخيم تقول: “محلٌّ للبيع”، سألنا أبا فهد (صاحب المحل) عن التفاصيل، فأخبرنا أنه يريد بيع عدة المحل فقط، وهي تشمل أخشاب اشتراها بحُرّ ماله، وبسطة، وبابور غاز، وبعض الأواني.
كلفة هذه “العدة” 50 ديناراً، بيد أن أبا فهد يريد بيعها بـ 25 ديناراً فقط؛ فهو مستعد أن يخسر نصف ثمنها لأنه مضطر للنقود، حيث إن قدمه أصيبت في قصفٍ بالبراميل المتفجرة لقوات النظام على الغوطة الغربية، فقطع عصبان فيها، ولا علاج لمثل هذه الحالات داخل المخيم، لذلك فهو يضطر إلى مغادرته بين فينة وأخرى لتلقي العلاج في إحدى مستشفيات العاصمة الأردنية عمّان.
ليس بعيداً عن محل أبي فهد المعروض للبيع؛ رأينا محلاً لأبي الزين، أسماه “سوبرماركت شمس الحرية”، على أمل أن تنتهي معاناة اللجوء القاسية، ويستيقظ ذات صباح قريب وقد مدّت شمس الحرية خيوطها الذهبية، وأشرقت بأنوارها البهية عليه وعلى جميع شركائه في الهجرة القسرية.