في وقتٍ يفترض أن يسود فيه الهدوء بعد إعلان وقف الحرب على قطاع غزة في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، يواصل الاحتلال الإسرائيلي تنفيذ خروقات متكررة ضد السكان المدنيين، في مشهد يؤكد أن العدوان لم يتوقف فعلياً، بل تغيّر شكله وأدواته.
فقد أعلن المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، أن الجيش الإسرائيلي نفذ 80 خرقاً موثقاً منذ بدء سريان اتفاق وقف إطلاق النار، أسفرت عن مقتل 97 فلسطينياً وإصابة أكثر من 230 آخرين، بينهم 44 قتيلاً في يوم واحد هو الأحد الماضي، في هجمات متفرقة شملت قصفاً مباشراً للأحياء السكنية وإطلاق نار على المدنيين، واستهدافات متعمدة بالطائرات المسيرة والدبابات.
وتشير المعطيات الميدانية إلى أن قوات الاحتلال استخدمت خلال هذه الهجمات رافعات إلكترونية مزودة بأنظمة استشعار واستهداف عن بعد، وطائرات حربية ومسيرة من نوع “كواد كابتر” لتنفيذ عمليات تصفية فردية، إضافة إلى أحزمة نارية كثيفة على أطراف المدن والمخيمات.
وتُظهر هذه الأساليب، التي تجمع بين القتل عن بعد والإحاطة الميدانية، اعتماد الاحتلال سياسة عسكرية تقوم على استهداف أي تحرك مدني باعتباره “تهديداً محتملاً”، وهو ما يمثل انتهاكاً واضحاً لمبدأ التمييز بين المدنيين والمقاتلين المنصوص عليه في اتفاقيات جنيف لعام 1949.
ولم تعد هذه الاعتداءات حوادث منفصلة يمكن تفسيرها بالخطأ أو سوء التقدير، بل هي خروقات متتابعة ومنسقة جغرافياً وزمنياً، رُصدت في جميع محافظات قطاع غزة دون استثناء، ما يؤكد أن الاحتلال ينتهج سياسة قتل جماعي منظمة، تستهدف المدنيين والبنية المجتمعية في آنٍ واحد، في محاولة لإبقاء القطاع في حالة دمار دائم تمنع أي عودة للحياة الطبيعية.
ومن منظور القانون الدولي؛ يُعدّ استمرار القتل واسع النطاق للمدنيين، واستهداف التجمعات السكانية والأحياء المدنية، وتدمير مقومات الحياة الأساسية بعد حرب مدمرة استمرت عامين، مؤشرات صريحة على جريمة الإبادة الجماعية وفقاً للمادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948.
فالإبادة لا تقتصر على الفعل العسكري المباشر، بل تشمل أي سلوك يهدف إلى تدمير جماعة بشرية، كلياً أو جزئياً، عبر القتل، أو إلحاق الأذى الجسدي والنفسي بها، أو فرض ظروف معيشية تؤدي إلى فنائها التدريجي، وهي جميعاً أنماط متحققة بوضوح في السلوك الإسرائيلي تجاه سكان غزة.
ورغم أن اتفاق وقف النار جاء برعاية قوى دولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، فإن استمرار هذه الخروقات من دون محاسبة أو ردع يعكس عجزاً بنيوياً في منظومة الحماية الدولية، ويطرح تساؤلات جدّية حول جدوى أي ضمانات مقدّمة لسكان القطاع. فالتواطؤ بالصمت، أو الاكتفاء بالتعبير عن “القلق”، يعني عملياً المشاركة في الجريمة من خلال الامتناع عن منعها، وهو ما يشكل إخلالاً بالالتزامات القانونية المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة واتفاقية الإبادة الجماعية.