محمد جميل
لندن 16 فبراير 2021
منذ إنشاء المحكمة الجنائية الدولية ودخول نظام روما الأساسي حيز التنفيذ في الأول من يوليو/ تموز 2002 وإسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة الأمريكية تشن حربا عليها، فمنذ البداية استشعرت الدولتان خطرها فرفضتا المصادقة على اتفاقية روما.
واستشرست الدولتان في حربهما ضد المحكمة عندما أظهر مكتب الادعاء العام نيته فتح تحقيق في جرائم ارتكبتها القوات الأمريكية في أفغانستان وقوات الاحتلال في فلسطين فقامت الولايات المتحدة في عهد ترامب بفرض عقوبات على أعضاء في المحكمة وشنت إسرائيل حمله لشيطنة عمل المحكمة مما حدا بأكثر من 70 دوله من الدول الأطراف في اتفاقية روما بإصدار بيان يؤكدون وقوفهم إلى جانب المحكمة ويرفضون هذه العقوبات.
وكانت إسرائيل والولايات المتحدة قد فرضت عقوبات على السلطة الفلسطينية بسبب انضمامها للمحكمة وإحالة كافة الجرائم المرتكبة في فلسطين من تاريخ 13 حزيران 2014 للمحكمة.
احتاج مكتب الادعاء خمس سنوات ليخلص إلى نتيجة بأن كافة المعايير التي نصت عليها اتفاقية روما تنطبق على الجرائم المرتكبة لكن المدعية العامة طلبت من الغرفة التمهيدية تحديد النطاق الإقليمي لاختصاص المحكمة قبل البدء في فتح تحقيق رسمي.
انتهزت إسرائيل الفرصة وقدمت عبر مؤيديها من مؤسسات ودول مثل أستراليا والنمسا وألمانيا وأوغندا معارضات للغرفة التمهيدية تدعي فيها أنه لا ولاية للمحكمة على الجرائم المرتكبة في فلسطين بحجة أن فلسطين ليست دولة.
بعد حوالي سنه من المداولات صدر قرار نزل كالصاعقة على إسرائيل مؤكدا الولاية القضائية للمحكمة على الجرائم المرتكبة في فلسطين في حدود الرابع من حزيران عام 1967 بما فيها القدس.
فقدت إسرائيل صوابها وأعلن نتنياهو رفضه للقرار متهما المحكمة بأنها مؤسسه سياسية وليست هيئه قضائية وبدأت حملة دبلوماسية لمواجهة القرار وكانت الولايات المتحدة في مقدمة الدول القليلة التي أصدرت بيانات تدين فيها القرار وترفضه.
لقد استغرق المحكمة ست سنوات لتعطي الضوء الأخضر لفتح تحقيق رسمي في هذه الجرائم وهي مدة طويلة قياسا مع جرائم أخرى ارتكبت في دول أفريقية، فمعروف أن التحقيق يجب أن يتم في أسرع وقت حفاظا على الأدلة والشهود وللإسراع في إنصاف الضحايا وتحقيق الردع العام والخاص.
ويبدو أن البدء في التحقيق سيحتاج إلى شهور أخرى بعد أن شارفت ولاية المدعية العامة على الانتهاء وانتخاب مدعي عام جديد في 13 فبراير 2020 حيث سيبدأ مهامه في حزيران 2020.
ربط بدء التحقيق الرسمي بعد كل هذه المدة الطويلة مع بدء المدعي العام الجديد مهامه أمر ليس له أي سند قانوني أو منطقي فالمدعية العامة لا زالت على رأس عملها وهناك هيئة ادعاء تستطيع أن تعلن عن بدء التحقيق الرسمي في الجرائم المرتكبة.
لا بد من التأكيد هنا أن فتح التحقيق يستند إلى معايير موضوعية متوفرة بعد انتهاء التحقيق المبدئي وقرار الغرفة التمهيدية بتأكيد الولاية الإقصائية وليست مرتبطة بشخص المدعي كما تحاول إسرائيل الترويج له.
فبعد انتخاب كريم خان مدعيا عاما جديدا بتاريخ 12/02/2021 نشرت صحيفة تايمز أوف إسرائيل المحسوبة على اليمين المتطرف بتاريخ 13/02 خبرا تحتفي به بانتخاب كريم خان وقالت إنه “المرشح المفضل لإسرائيل الذي حل محل بن سودا المثيرة للجدل” وهو من سيقرر فيما إذا كان سيمضي في فتح التحقيق أم لا.
ما جاء في الخبر مؤشر على استراتيجيه جديده لإسرائيل في التعامل مع المحكمة فمن الحرب عليها وشيطنتها إلى الرضا عن المدعي العام الجديد وكأنها تضمن بخفة شديدة أحد أمرين إما أن يقوم خان بتعطيل التحقيق تحت أي ذريعة وهذا سيكون محل انتقاد شديد لا يقوى عليه، أو أن يقوم بالتكامل مع القضاء الإسرائيلي ليفسح المجال للعدالة الإسرائيلية أن تأخذ مجراها وهذا لن يُقنع المدافعين عن العدالة وسيكون محل هجوم شديد كون القضاء الإسرائيلي أثبت طوال الفترة الماضية أنه عاجز عن التحقيق الجاد في أي من الجرائم المرتكبة فضلا عن أنه في قضية الاستيطان ساهم في شرعنته والأدلة متراكمة على أن المستوى السياسي والتشريعي والقضائي متكاتفين جميعا في خدمة الاستيطان وتكريسه.
مهمة خان ليست معقده أو صعبه إن هو التزم بنصوص اتفاقية روما وقرار الغرفة التمهيدية ولم ينزلق نحو الرضوخ لأهواء وضغوط إسرائيل وحلفائها فالمطلوب من خان ليس أن يكون مفضلا لهذه الجهة أو تلك كما ترغب إسرائيل التي ترتعد من بدء التحقيقات الرسمية، المطلوب منه أن يكون قاضيا نزيها ومحايدا يحكّم ضميره في كل خطوة يخطوها خدمة للعدالة.
فأي فريق يروج أن المدعي العام الجديد هو إلى جانبه ومناصرا لقضاياه لا يفهم آلية عمل مؤسسه قضائية دوليه على هذا المستوى من الأهمية، صحيح أن الساسة والسياسيون يحاولون خلط الأوراق عبر الترهيب تارة والترغيب تارة أخرى لكن يبقى هناك قواعد واضحة تحكم عمل كل قطاعات المحكمة لا يجرؤ أحد على خرقها وإن فعل فسيكون محل هجوم من آلاف الداعمين لجهود المحكمة في وقف الإفلات من العقاب.
ما نعرفه عن خان أنه مؤمن في عمل المحكمة ومدافعا قويا عن استقلالها فله سمعه قوية في الأوساط الدولية باعتباره ظهيرا صلبا لتفعيل حكم القانون على المستوى الدولي فقد شغل مناصب عديده وأشرف على تحقيقات أكسبته سمعة القاضي النزيه الأمر الذي كان فاعلا في انتخابه مدعيا عاما.
نحن لسنا في صدد مدح أو ذم المدعي العام الجديد نحن نوصّف واقعا قائما وفي هذا رسالة لإسرائيل وحلفائها “أن كفوا أيديكم وألسنتكم عن المحكمة فإن كنتم لا تخشون العدالة فلا داعي لحملات الهجوم تارة وحملات المداهنة والمهادنة تارة أخرى فقد آن الأوان لتحقيق العدالة في فلسطين وتحسبونه بعيدا .. إلا أنه قريب”.